” رائحة الشجر “قصه قصيره

 

قرص الشمس الأحمر ملتصق بالأفق ، وقمم الأشجار كثيفة الظلال والنخيل تغمرها أشعة الشمس الغاربة ، وقفت علي ضفة النهر أرنو إلي المدي البعيد ، ينفذ الشمس في كل شيء . لا تستطيع العيون في هذه اللحظات أن تحملق فيها أو ترنو إليها ، لا جديد تحت الشمس الكل باطل ، وقبض الريح ، كالعادة نغمة السخط تتسرب إليٌ من جديد ربما لكوني لم أعثر علي العمل المناسب ، من مكاني راقبت المياة تترقق هادئة آمنة ، الأشجار الأخري واجمات ، كنت بحاجة إلي صوت آخر غير صوت أنفاسي المتتابعة ، جلست بجوار إحدي الشجيرات أسندت ظهري لجزعها العملاق ، أدرت مؤشر الراديو بموجاته العديدة فاستقرت الموجة علي صوت إذاعة ( الشرق الأوسط ) قدم برنامج رياضي ، سمعت حواراً ساذجاً وكلاماً مكرراً ، فأدرت المؤشر نحو إحدي البرامج ، أغاني ، برامج رياضية وصحية سخيفة هابطة أصوات خشنة ، برامج تتحدث في السياسة وما يحدث في الشرق الأوسط فلسطين ، إيران ، إسرائيل ، تعالت الأصوات بنبرتها تحمل معاني التخوين ، الدفاع ، اليأس ، القتلة ، الاغتيالات ، المغتصبين ، ضجٌَت الأفواه باللعنات والاعتراض والتشدق بالعبارات السياسية الرنانة عن الخيار العسكري والترحيب بدور أوروبي في المنطقة ، لهجة عربية مقعرة ذكرتني بالشعر الجاهلي في كتب المدارس حاولت تغيير المحطة أبحث عن أغانٍ ، أصوات عذبة ، عبد الحليم ، فيروز ، أم كلثوم ، ولكني فشلت في العثور عليهم في هذا التوقيت بالذات ، حاولت أن أنسي السفلة المغتصبين ، تصارعت في نفسي أمواجُ من الألم والعجز ، رائحة الأشجار القديمة ما زالت تعبق المكان ، أتكور علي الأرض في وضع جانبي مانحاً العقل التائه هروباً وخجلاً وخوفاً أجازة من كل علامات الاستفهام التي تنهش رأسي .. أغمضت عيني.. أفقت علي أشباحٍ سوداء في يدها أسلحة تومض .. أصوات ارتطامات . توالت الضربات بلا رحمة فهم السفلة قتلة شاهدتهم يذبحونهم ويرمونهم في المياة وأنا أحدق في فزعٍ ، شعرت بعرق شديد ، أحسست بجسدي كله يتهاوي .. بعد تحديق أكثر شاهدت ثلاث رجال يحملون “بلط” يقومون بقطع الأشجار التي بدورها تسقط في ضجة مروعة .. شجرة منهم سقطت كانت تظن أنها لم تفقد يوماً كبريائها ولكن فروعها الخضراء التي تحطم نصفها بقي نصفها الآخر يحتضر في بطء مشرئباً نحو السماء ، أوراقها لم تعد تهتز ، طيورهن لا تشقشق ، تهرب في الفضاء علي غير هدي ، كانوا يعملون في وحشية ببلط حادة ، فضلت احدي الأشجار العاتية من شدة الإرتطام الإنتحار قبل أن يغتصبوها بالآلات الحادة سقطت في عرض الطريق ، مشيت بعض الخطوات يميناً وشمالاً ثم أسرعت بحنو نحو العصافير الشاردة انتبهت لنداء سائق حافلة القتلة المغتصبين كان يستمع لإحدي الأغاني المنبعثة من راديو الحافلة أغنية “يا بهية وخبريني علي اللي قتل ياسين” ، امتزج صراخ الاشجار مع البلط والارتطامات الشديدة مع أصوات الشهداء والشرفاء المقهورين صوت صديقي الشاعر ترن كلماته في أذني يا بهية خبريني علي اللي قتل “الشيخ أحمد ياسين”* ( يا شهيد سطر أساطير الخلود . غدر الأخوة فاق الحدود ، العدو بيبني حيطان وسدود ، قتلوه الصهاينة ولا الأمريكان ، ولا قتلوه فتح وحماس المسلمين ، ولا عارف دول مع مين ولا دول ضد مين ! . يا بهية أنا في العراق ولبنان وفلسطين ومصر واصل … ماسك قلم وبندقية وبواصل … ، نفسي أشوفك في أمان مرة … دي العيشة من غيرك مره … ، هو ياسين اللي ضحي بنفسه بجد في مصلحة الوطن . )
وكانت الأشجار ضحايا “البلط” تنزف ألماً وأنيناً ، الأوراق باتجاه موتها تبدأ تتبدل يغطيها التراب علي أوراقها المتموجة ، سمعت أحدهما يقول نستكمل باقي القطع غداً .. وقد حان وقت الرحيل اليوم ، ظلت أنفاسي تهمس وتعترف بالعجز ونظراتي باليأس لكنها تتمسك بالحياة مثل باقي الأشجار التي ظلت متشبسة بالخيط الدنيوي العجيب رغم ضراوة الحياة وقسوتها وبلط القتلة المغتصبين .

ا.د وجيه جرجس شاعر وقاص وناقد مسرحى

Related posts

Leave a Comment