كتب محمود سمره
وبعد قراءة هذا الكتاب، أدركت المعنى الحقيقي؛ أن للأدب حُفَّاظًا ورُوادًا يعملون كما يعمل حُرَّاسُ القِلاع، ربما هم يشتهرون أو لا، فليست تلك غايتهم؛ بل الغاية حماية الأدب وإكمال رسالته وأداء أمانته. الأديب فرد مجتمعي في المقام الأول، يشعر بما يحدث بمجتمعه، ولكن يختلف انعكاسه عن عامة أفراد المجتمع؛ لاختلاف الرؤية والشعور والملكة والإمكانيات، والأديب هاشم محمود خير مثال للأديب المجتمعي، ولكن مجتمعه يمتد بشكل جغرافي وتاريخي، يمتد ليشمل كل أفريقيا واللسان العربي، ويشمل التاريخ الإنساني العاطفي الشعوري المؤثر والمتأثر في هذه المنطقة.
ليس الكتاب كتابًا بالمعنى الحرفي لكلمة كتاب، فإن كنت ستقرأ الكتاب باحثًا عن توثيق تقريري، فلن تجده بالشكل المعتاد، هو أقرب للأدب منه للتوثيق والتأريخ، رغم احتوائه – ظاهريًّا – على توثيق لحياة إنسان بتجاربه وحياته ومجتمعه، كنموذجٍ مجتمعي.
لعل من الجرأة أن نسمي هذا العمل اسمًا جديدًا على عالم الأدب، فلن يكون كتابًا ولن يكون رواية؛ بل هو كِتارواية، كتاب توثيقي، حياتي، يحكي قصة بطل من أبطال المجتمع، تجارب توثيقية أقرب للتقرير عن الحكاية التصورية المخترعة، ولكن تصطبغ بلون الأدب؛ لأن الكاتب أديبٌ. الحكاية ليست بطولة في رياضة ما فحسب؛ بل هي بطولة معنوية، تشكلت بها كل سمات العزيمة والإصرار وأدوات النجاح والمثابرة، جعل الكاتب من هذه القصة منارةً يهتدي إليها الباحثون عن النجاح. وألحقنا الكتاب بفن الرواية؛ لما ستجده فيه من بعض العناصر السردية الأدبية، والبراعة اللغوية، والفنون الجمالية، فلو قرأت الكتاب لن يخفى عليك أبطالٌ للحكاية، ولا سرديات القصة، ولن تخفى عليك الحبكة الحكائية، وستمر بأزمات الحكايات، وتصاعد أحداثها، وانفراجاتها جميعًا، ونهايات هذه الحكايات، وستبلغ مبلغ الأدب الرفيع برسالته، وتحريك دفة العقل إلى مغزىً يرمي إليه الأديب.
ولن يُنكر عليك مُنكِرٌ أن تظنَّ أن الكتاب توثيق لتاريخ حاضرٍ لبطل مجتمعي كُروي، وهو محمد صلاح، ولكن هذا ظنٌّ غير مكتمل، فلم أرَ بين أحرف الكِتارواية عناية لشخص “صلاح”، ولكن رأيتُ عنصرةً لصناعة النجاح وتعلم المثابرة والاستمرار بعزيمة، لا تعرف الكللَ ولا العجز.
هلَّا قرأتَ الكِتارواية لتدرك معي كيف صَهَرَ الأديب مُعاناة الفرد المادية والمعنوية، وصاغها في كلمات تُسمع وتُرى، أبدع الأديب هاشم محمود حق الإبداع، أنا لست هاويًا كُرويًّا بالمرَّة، ولا عِلم لي حتى بمشهور هذه الرياضة، ولكن علمت كيف اجتهد الإنسان “صلاح” وثابر، وصبر، وتحمَّل، وتطور، وعالج، وتمرَّن؛ ليبلغ الهدف، لا صعاب تستحق التوقف، الصعاب وُجِدت لتُظهر الفارق بين الأبطال والعوامِ، نعلمُ جميعًا وجود المستحيل، فلا نزعم ألا مستحيل وأن كل شيء ممكن الحدوث، ولكن لكي نثبتَ استحالة المستحيل لا بدَّ من إثبات ذلك عمليًّا.
اثنا عشر فصلًا أسمعنا وأرانا الأديب رسالته، ما بين هدف لا يُتخلى عنه، ويبذل في سبيله كل القوى الممكنة لتحقيقه، حتى الثواني الأخيرة التي يُظن حينها أن الأمل قد انتهى، وأن القِوى قد خارت، وأن الهمم قد ذابت، يَثْبُتُ البطل بأنفاسٍ متهدجة، ومخالب غارسة، وزئير مدوٍ في خلجات النفوس، حاثًّا نفسه أن لا أمل يضيع ما دام صاحبه مؤمنًا بتحقيقه، ليس عليك أيها المحارب إلا أن تؤمن بالله الغير مضيعٍ لعملك.
“أيها المؤذن هيا نادِ باسمي لينصت لك أهل القرية”…القِبلة هي الوجهة، وقِبلة العبادة لا خلاف عليها ولا جهل، وقبلة النجاح متفاوتة ومتغايرة، تختلف باختلاف المُثل العليا، إن اخترت لنفسك طريقًا ما، فحتمًا قد رأيت مثالًا أعلى أعجبك وتمنيت أن تقتديَ به، فنادَى مؤذنُ النجاح داخلك دومًا بقصته ونجاحاته.
“المتعثر فيهم يجد في صلاح مآربه، الضائع فيهم يجد من صلاح حلمه، الطامح فيهم يجد من صلاح العزيمة”…”فالحزن هو خوف من ضياع الحلم”…”فأنا اللاجئ ما زلت أبحث عن وطنٍ بديل، كم تمنيت أن أقف تحية وإجلالًا لبلدي”…الحُلم مسلاة الإنسان وأفيونة ألمه الحاضر، يسعى حالمًا في يقظته ليُمنِّيَ نفسه أن الألم لا بدَّ من أملٍ يمحوه، وحتمًا ستُسَطرُ حروفٌ من السعادة محل الحزن، يرى في أبطاله مثالًا واقعيًّا لتحقيق الحلم، ولو فشل هو في تحقيق حلمه بنفسه، تَعلَّق بحالم آخر، عاش ليستريح بسعادة الآخر، ويُمنِّي نفسه الشعور بأحقية ملكية هذا البطل لمجتمعه بالكامل، حتى عمَّ المجتمع اتساعًا جغرافيًّا أكبر، فكما سعدَ الأفارقة والعرب جميعًا بابن مجتمعهم الجغرافي المتسع “صلاح”، كان كذلك رمزًا للنجاح، للتعلم من عزيمته وتطوره.
“هنا منزل محمد صلاح”…إذا قرأت الكِتارواية، ستجد الزمان والمكان، عُنصُرَا الروايةِ الأجدران على إنجاح الرواية أو نفيها، برع الأديب في رسم ملامح المكان، وأبدع في نقل الزمان وأحداثه وتفاصيله الشعورية. هل أراد الأديب هاشم أن يرسم لنا المكان والزمان فحسب؟ ربما ترى براعة أديبٍ ما في مهاراته التصويرية والجمالية لنقلك بين دفتي الكتاب أو الرواية إلى مكان ما، ولكن ليس كل أديب بارعًا في دمج رسالته في هذين العنصرين، لقد غرس الأديب هاشم مفهومًا بأنَّ جميعنا متشابهون في بيئاتنا المَنسِيَّةِ المطحونة المظلمة بكدِّ العيش وصعوبة الحياة، رسم هاشم محمود وحكى تفاصيل تُسمعك صوتَ القرية، وتثير رائحة الطبيعة داخلك، وتُشعرك بضوء القرية النهاري اللامع بصفاء وحنين، لينقلك إلى ما يعيشه الإنسان العادي مثلي ومثلك، كيف أن للأبطال المثابرين هممٌ تخرج خارج المألوف، وتنتصر على الرتابة والخوف، ولا تَكِنُّ لعموم الارسترضاء والاسترخاء الهِمميِّ.
“لكنها كانت أشبه بساعات الاحتضار والموت، فلا يمكن لأحد أن يصف شعور الأم والأب تجاه احتمالية فقدان الابن في ومضة عين”…للنجاح ضريبة وألم بعدهما لذة، وللتكاسل راحة بعده ندم.
“أراد صلاح أن يغير واقعه”…وكلنا صلاح، من منِّا لا يسعى لذلك؟ ولكن من منِّا قد ينجح في ذلك؟ للتغيير أدوات، وأولها أن تُدرك ضرورة التغيير، ووجهة التغيير. ومن منِّا لا يعتمد على خالقه في دعواته ومناجاته أن يُصلح الله حاله؟ ولكنه الإخلاص، الحدُّ الفاصل بين الدعاء والاستجابة، الإيمان وصدق العمل. “الصبر والتحمل حتى الوصول للنجاح”…
نحتاج في كفاحنا إلى من يُربِّطُ على أكتافنا، ويُحمسنا ويؤمن بقدراتنا، هذا هو النموذج الذي قدمه الأديب في فصل (العناق في حضرة الرفاق)، فمَثَّل لهذا الاحتياج بنموذج مدرب “صلاح” وهو “يوجن كلوب”. مهما كان الواحد منِّا حماسيًّا، ومهما نشطت همته، فلا بد من دفعة من المحيط الخارجي، معنويَّةً قبل أن تكون ماديَّةً.
أترى معي أثر صوت الأديب؟ أترى كيف خطَّ خطوات النجاح؛ مثابرة وعزيمة وإيمان واجتهاد، ودعم وثقة؟
“كان هناك صلاح جديد، يحاول أن يخطو خطوات ثابتة وراء موهبته وعشقه”…صنع الأديب اسمًا جديدًا لكل مجتهد، أسماه “صلاح”، أصبح رمزًا، أصبح مقياسًا، وهذا هو الحال الحقيقي، فعلينا مجتمعيًا أن نغرس في أذهاننا مشاهدة النماذج الناجحة حتى تثمر بعد ذلك تَعلمًا تلقائيًّا لتنفيذ خطوات النجاح.
إن الحياة ليست حلمًا ونجاحًا ولذة فحسب، فهناك الألم الناتج عن الفشل، الواقع بين أسطر هذا المجتمع، وما دام الأدب انعكاسًا فقد نقل المجتمع نقلة أدبية حَرفية بارعة، ضمَّ لك قُطبي المجتمع ضمًّا بين دفتي الكِتارواية الرائعة. إن كان التحفيز عاملًا أساسيًّا لتحقيق النجاح، فإن الإفراط والترفيه عاملٌ فاعلٌ خطرٌ للفشل، ألم نرى ونسمع في كِتاروايتنا هذه عن نجاحات صلاح ومُتَّبِعُوه، فها هو هاشم الأديب يخبرنا في “سيجارة لتعويض خسارة” عن الأسمر المدمن المترف المرفَّهِ، وعن أمه المُلامة المتألمة، وعن أسرته المتوجعة، وعن جيرانه المتحسرين المشاهدين، يقص لنا قصة واقع مؤلم فجٍّ، أنين أمٍّ، وحسرة أهلٍ، وضياع شابٍ، وطلب امتداد يد العون، والأمل المنتظر بالصبر والقدرة على التحمل.
ودعونا نوثِّق كما وثَّق أجدادُنا التاريخَ، نوثِّقُ أحوالنا، وعاداتنا، ومستحدثاتنا، حتى وأمراضنا وعللنا وأحوالنا في هذه الأمراض والأوبئة، وكيف غَيَّرَ وبَاءُ عَصرِنا قناعاتٍ باتتْ لعقود من الزمن، إنها “الكورونا”. كما عكس السابقون ولو بالعناويين، ولو بالتواريخ، ولو بالحكايات العابرة عن أحوال مجتماعاتهم التاريخية؛ عن ما مرَّ بهم من شدائد وأوبئة وكوارث، فقد حفر الأديب على جدارية عصرنا عن “كورونا”، وكيف هزَّ دواخلنا المعنوية والمادية على حدٍّ سواء، وكيف فتَّ عضدنا، وخَوَتْ قِوانا أمام هذا الكائن اللاموجود بالنظر المجرد. الأديب هاشم ليس بعالم في الطب، ولا في المجالات العلمية المختصة بالتعامل مع هذا الفيروس، ولكنه عالم بالكلمة، وعالم أين ومتى يغرسها، لتثمر أثرًا مرتجىً.
فلما قال: “هل تكره كورونا كرة القدم؟”؛ جاء صدى صوته وهل تكره كورونا البشر والنجاح والتحرك والتطور، أم أنها الرسالة التي جاءت لنستيقظ من ركادنا ورمادنا، ولما قال: “لم نكن أنانيين لكننا مُحبون، لم نحتمل أن نعيش في هذا الوباء دون أن نرى أحبابنا”؛ بدا لنا ماذا يستخدم هذا الأديب، الكُرة نجاح مشترك عام لمجتمع سواده الأعظم يعشقها، فلا ضير من أن نرمز بها لنجاحاتنا مجتمعة كدلالة متوارية، ومبارياتها هي حكايات الحياة الحاصلة، نعيشها ونشاهدها ونعايش متغيراتها، هل عزلتنا “الكورونا” عن أن نعيش بشكل طبيعي؟ عن أن نشاهد متغيراتنا ونعاصرها؟ هل أصابتنا بالشلل فلم يعد هناك مشهد إلا “كورونا”؟
الوقوف على قدم مجروحة، أو هكذا قال الأديب حينما كتب: “عودة الكرة وغياب الجمهور”؛ لا حسَّ ولا تَفكٌّه ولا مُتعة، هكذا تعود الحياة كمن يخطو على جراحه ينزف دمًا، لا يستطيع الخطو، ولا يتحمل المكوث ولا يطيقه. “لن يكون مُتاحًا العناق أو احتكاك الأيدي عند تسجيل الأهداف”…ولن يكون هناك اطمئنان إلا بعد حين، إلا أن يشاء الله، ضربة خَفِيَّة مُوجعة رجَّت كيانات العالم رجًّا.
ويعود بنا بعد فصلين من الألم متتالين، إلى صورةِ نجاحٍ تحثُّ على الفخر، لو كان النجاح هو تحقيق حلمك لكان كافيًا بحقٍّ أن تسعدَ، ولكن ماذا لو حققَ نجاحُك هذا نجاحَ أُمَّةٍ كاملة تشتاق للنجاح؟ أنت حينها قد سطَّرت نجاحك وبرهنت عليه بما لا يدع مجالًا للجدل ولا للنقاش.
“الرحلة لم ولن تنتهي، فكل يوم يولد محمد صلاح جديد…صلاح ظاهرة لا تنتهي، صلاح هو الأحلام المشروعة رغم الظروف المحبطة”.