لواء دكتور/ سمير فرج
متابعة عادل شلبي
لم تكد تنته حرب أكتوبر 73، التي يطلق عليها الغرب “حرب عيد الغفران”، أو “يوم كيبور”، نسبة للعيد الديني اليهودي، الذي شنت فيه مصر حربها المجيدة، حتى انطلقت الأقلام، من كل صوب وحدب، تكتب عن هذه الحرب، وتحلل نتائجها، التي جاءت عكس كل التوقعات الاستراتيجية، فشهد عام 74 العديد من المقالات الصحفية، والدراسات التحليلية، وحتى الكتب التي تناولت سيرة هذه الحرب، كونها أحدث حروب العصر الحديث، التي دارات بين جيشين من أقوى الجيوش في العالم؛ الجيش المصري والجيش الإسرائيلي، المزود كل منهما بأحدث الأسلحة والمعدات المتطورة، التي لم تستخدم في الحروب السابقة.
كان من أهم الإصدارات التي تناولت تحليل هذه الحرب هو تقرير “Military Balance”، أو “التوازن العسكري”، الذي يصدر، سنوياً، عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، في لندن، “International Institute for Strategic Studies” (IISS)، وهو واحد من أهم الإصدارات العالمية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، مما يعتمد عليها كل المفكرين الاستراتيجيين، والمحللين العسكريين، في العالم. كان تقرير عام 1973، قد صدر في يناير من ذلك العام، أي قبل الحرب، ليحدد حجم القوات الإسرائيلية، والقوات المصرية والسورية والأردنية والعراقية، مجتمعة، معلقاً بأنه مجرد تفكير العرب في القيام بأي عمليات عسكرية ضد إسرائيل، لاستعادة الأرض التي فقدها عام 67، فمصيرهم الحتمي هو الهزيمة، نظراً للتفوق الكمي والنوعي للقوات الإسرائيلية، مقارنة بحجم القوات العربية. كان ذلك خلاصة ما قدمه التقرير في نهاية الفصل المخصص لتحليل القوات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط.
ومرت الأيام، وهل شهر أكتوبر 73، فعبرت القوات المصرية قناة السويس، ودمرت خط بارليف، أقوى الخطوط الدفاعية عبر التاريخ العسكري، بعد “خط ماجينو” الذي بناه الفرنسيين أمام الجيش الألماني، ووصلوا لعمق 15 كم شرق قناة السويس، وهزموا العدو الإسرائيلي، واستعادوا الأرض، فيما بدا للعالم وكأنه معجزة عسكرية. ولما حان موعد إصدار العدد الجديد، في بداية عام 74، وجد مركز الدراسات الاستراتيجية نفسه في حرج دولي أمام خطأ جميع تقديراته المذكورة في تقريره السنوي لعام 73، مما دفعه لتأجيل الإصدار الجديد، عن عام 74، لمدة 6 أشهر، لمراجعة أوجه القصور في تحليله السابق، التي أدت لخطأ النتائج.
وصدر التقرير الجديد في الربع الثالث من عام 74، ليشهد بأن المصريين غيروا المفاهيم العسكرية، وأهمها تلك المرتبطة بمقارنة القوات، فبعدما كان أساس حساب التفوق العسكري للدولة، يقوم على أعداد قواتها، وأعداد أسلحتها ومعداتها، من الدبابات والمدافع والطائرات، وغيرهم، لم يعد من الممكن اعتماد ذات المنهجية، بعد تفوق القوات المصرية في حرب 73، والتي فرضوا بها عناصر جديدة لتقييم القوى العسكرية، كان من الضرورة اعتمادها كعناصر حاكمة في تحديد موازين القوى؛ أولها الروح المعنوية، إذ كانت الروح المعنوية للمصريين تفوق الروح المعنوية للإسرائيليين، بعد انتظار دام ست سنوات منذ يونيو 67.
كما أظهرت هذه الحرب عاملاً جديداً، وهو الرغبة في القتال، فقد كان هدف المصريين هو استعادة الأرض التي فقدوها في 67، بينما هدف الإسرائيليين للاحتفاظ بأرض اكتسبوها في الحرب السابقة، يعلمون أنها ليست أرضهم. وأوضحت الحرب، كذلك، أن المصريين لم يهتموا بالتفوق العددي لأسلحة قوات العدو الإسرائيلي، بل كان ذلك حافزاً لابتكار أساليب جديدة للتصدي لها، مثل المدافع المائية للتغلب على الساتر الترابي لخط بارليف، وحائط الصواريخ للتغلب على قوة سلاح الجو الإسرائيلي، بتقييد قدرتها، وهو ما حدث مع بداية عبور القوات المصرية لقناة السويس، فتغير، بهذا، مفاهيم الدفاع الجوي في الفكر العسكري العالمي، إذ لم يعد التفوق العددي للطائرات، عاملاً أساسياً في حساب القوى، بعد نجاح قواتنا في تحييد القوات الجوية المعادية بفكرة حائط الصواريخ.
كما تمكنت قواتنا المصرية في تسجيل نجاح آخر باسمها، بعد الهجوم على واجهة دفاعات خط بارليف الإسرائيلية بالكامل، باتباع أسلوب “الدفاع المتحرك” Mobile Defense، في مفاجأة غير متوقعة للإسرائيليين، حيث يعتمد نظام الدفاع المتحرك على اختراق من اتجاه واحد، وهو ما كان من شأنه تمكين الاحتياطي الإسرائيلي من تدمير قواتنا التي نجحت في الاختراق، إلا أن اختراق القوات المصرية للدفاعات الإسرائيلية تم على المواجهة بالكامل، مما أربك حسابات القوات الإسرائيلية، ووضعها في مأزق لعدم القدرة على تحديد اتجاه دفع الاحتياطي. فاتضح للجميع أن نظام الدفاع المتحرك، الذي تتبناه العقيدة العسكرية الغربية، المعمول بها بكل دول حلف الناتو، لم يعد صالحاً بعد هجوم المصريين في حرب 73، فبدأت وزارة الدفاع الأمريكية في تعديل فكر الدفاع المتحرك في العقيدة الغربية، لتخرج للعالم، في عام 76، بالشكل المتطور للدفاع المتحرك، مطلقة عليه اسم Active Defense، أي “الدفاع النشط”، وهو الصوة المطورة للدفاع المتحرك، لتتبعه كل القوات المقاتلة في حلف شمال الاطلنطي، والذي يقسم الاحتياطيات ف العمق إلى عدة احتياطيات لمواجهة الاختراقات المتعددة على طول المواجهة.
ولو ساقتك الظروف لحضور محاضرة عسكرية عن شكل الدفاع الجديد، فتأكد أن محاضرك سيبدأها بأن تطوير الدفاع المتحرك، إلى الدفاع النشط، اعتمد على خبرة قتال حرب 73، أو حرب عيد الغفران، بعدما نجح المصريون في إبطال فاعلية الدفاع المتحرك … وهكذا نرى أن حرب أكتوبر قد غيرت العديد من المفاهيم بفضل شجاعة الجندي والضابط المصري، الذين هم خير أجناد الأرض.