الليل يسدل ستاره, يخيم على كل الأرجاء, حتى يحجب الرؤية تماماً.. ما الذي يراه المرء ليلاً في الميدان, لم يصادف إلا أشباحاً يصطدم بها وتصطدم به, عتمة الدبابات المدمرة والمدافع الباردة وسلاسل الأنوار الخافتة, دوي الانفجارات يصم الأذن, والصمت الموهوم الذي يتخلله من حين إلى آخر إنفجار لغم أو إطلاق دفعة رشاشات صداها يقلب العتمة ليبدأ استطلاع صامت لعشرات من الجنود الأحياء مازالوا ناشبين أجسامهم بالحفر, وملطخين بالرمال والدماء التي تتناثر من الأجساد المبتورة.
ظل مكانه.. عيناه متسعتان يحدق بين الظلام تارة, وينصت بأذنه إلى أصوات متقطعة متفرقة تأتي من هنا وهناك تارة أخرى.
تنبعث من داخله أنات خافتة أو محشرجة.
يتردد بين مقاومة النعاس في ضراوة.. مكث بعض الوقت منبطحاً, وملتصقاً بالأرض مرتاعاً ومنكمشاً خلف الدشمة الرملية, ولم يدر كم مضى عليه من الوقت.
منطوٍ على نفسه, نزفت الساعات وهو مستميت تتضاعف جهوده المتفانية في إصلاح جهاز اللاسلكي الذي يحمله. يلازمه كظله.. آخر رسالة تلقاها من صديق له.. حدثه بنبرة يصحبها صرخة ممزوجة بالفرح والبكاء معاً.
ــ عبرنا القناة, وحصلنا على أرض جديدة من العدو !!!
سقطت السماعة من يده, وسالت دموعه تنفجر كالنهر, وسجد لله شاكرا . طاردته الذكريات من جديد رغم صوت القنابل والدبابات المرعب.. أخذته ذكرياته بعيداً إلى خارج حدود المكان, ولأن الحرب محفوفة بالمخاطر إلا أن الحب أيضاً محفوف بالمخاطر.. تذكر آخر أجازة له كانت منذ ثلاثة أشهر وعدة أيام..
مكث بجوار ابنة عمه وخطيبته.. ضغط على يديها المدلاة بجوارها همس:
ــ هل تحبيني مثل ما أحبك !!
توقفت أناملها الممتدة.. شعرت ببرد جميل يسري بين العروق اللاهثة وأنعشها, واخفت وجهها في صدره وهي تتمتم:
ــ لا استطيع العيش بدونك.
فرأى عينيها تبرقان بريقاً خلابًا, انزلقت من عينيه دمعة ممزوجة بحبات الرمال, قبل أن يزيلها كان الجهاز يستقبل إشارته.
ــ انتصرنا.
بقلم الأديب/ مجدى متولى إبراهيم