بقــلــم د/ طـــــارق رضـــــوان
“بصدق أنا لا أحبكَ بعينيّ/ إذ إنهما تلحظان فيك ألف عيب/ و لكن قلبي هو الذي يعشق ما تزدريه عيناي قلبي”
تطرح العلاقة الثالوثية الجنسية بين رجلين و المرأة في نص شكسبير علاقة وجودية خالصة، إنها تكشف عواطف و أفكار الثالوث في علاقات ثنائية من الداخل و من الخارج ايضا فعلاقة شكسبير بالفتى و الفتاة كل على حدة و علاقة الفتى بالفتاة في علاقة خائنة للشاعر ثم علاقة الفتاة نفسها بعشاق آخرين من خارج الثالوث كلها تعطي تلونات للحالة الجسدية و النفسية و الفكرية و تضعها تحت المجهر فشكسبير المتأثر بالموشح العربي و بالتراجيديا اليونانية و اللاتينية فيما بعد لا يتقبل من خلال مزاجه المشبوب إلا العلاقات الملتهبة و التي تصنع أدبا قويا و فرجة تنتزع المشاهد إنتزاعا فينصرف بكليته إلى العمل المسرحي أو الشعري و لا يهتم بغيره في تلك اللحظة و لهذا قد تقرأ نصوص شكسبير العاطفية المترجمة التي يتوجه بها إلى الغلام في صيغة التأنيث مع فرق في الوزن و القافية و لكن المعاني تبادلية بين الجنسين في هذه التجربة النواسية و هو ما يوفر هذا الإلتباس الجميل والمُحيّر إذ أن اللغة الانجليزية نفسها لا تضع الحدود بين المؤنث و المذكر بصفة واضحة و هو ما يعطي الشاعر مجالا اوسع للإبداعية و التحرر و يعطي الشعر الشكسبيري بُعده الوجودي المتعلق بالأنا و الآخر و الأصل و الصورة و التناسخ الابدي.
فأساس العلاقة الجنسية الثلاثية لدى الشاعر هو البحث من جهة عن الانتماء و الإعتراف من الآخر بأنه جدير بالحب من جهة أخرى و هذا يعود في اغلب الأحيان إلى حب و إعتراف لم يجدهما الشاعر في طفولته من أهم قطبين في حياته أو من احدهما و هما الأب و الام و خصوصا من الجنس المغاير لجنس الشاعر (الأم إن كان الشاعر ولدا و الأب إن كان بنتا) و هكذا يتلبّس الحب الجنسي بالعاطفي حتى يغدوَ لا جنسياً كما في قوله في سونيت جائزة الألم 141 ص119 “بصدق أنا لا أحبكَ بعينيّ/ إذ إنهما تلحظان فيك ألف عيب/ و لكن قلبي هو الذي يعشق ما تزدريه عيناي قلبي الذي يلذّ له رغم المنظر ان يتولّه/ و ليست أذناي بنغمات لسانك مغتبطتين/ و لا الشعور الرقيق للمسات الخسيسة توّاق/ و لا الذوق و لا الشم يشتهيان أن يُدْعَيَا/ إلى أية وليمة شبقية معك وحدك لكن لا ملكاتي الخمس و لا حواسي الخمس/ تستطيع ان تثني هذا القلب الأحمق عن خدمتك/ هو الذي يترك ما فيه من شبه بالرجال جامحا لا يُلجَمُ/ ليكون عبد قلبك المتكبّر و أجيرك البائس/ إنني لا أحسب حتى الآن ربحا كسبتُهُ سوى طاعوني/ أن تلك التي تجعلني أقترف الإثم تكافئني بالألم” بل إنه يدخل في دائرة التأثيم و يفقد كنهه الجسدي ليتحول إلى لعبة بلاغية بحتة ظاهرها السعادة و المقدرة و باطنها العجز و العذاب و لا ينكر شكسبير هذه الصورة في علاقته بالحبيبة، علاقة فاشلة سلفاً لأنها تنبني على علاقة أوديبية مع الأم “اُنظري، مثلما تجري ربة بيت حريصة لتمسك/ بِطائر من طيورها هرب منها طارحة طفلها على الأرض/ و جارية بأقصى سرعة، تطارد ذلك الذي تتمناه أن يبقى لها/ فيما يطاردها طفلها المُهمًَل/ متشبثا بأذيال ثوبها، و هو يبكي محاولا أن يلحق بها/ تلك التي لا يشغلها إلا أن تلحق بذلك الطائر أمام وجهها، غير آبهة لعذاب الطفل المسكين/ كذلك تجرين أنتِ خلف ذلك الذي يطير هاربا منك/ فيما أطاردكِ، أنا طفلُكِ، بعيدا خلفكِ” سونيت المطاردة 142ص119
إن هذه العلاقة الأوديبية الحادة التي قد تكون نابعة من صدمة الشاعر في أمّ خائنة للأب فضلا عن خيانتها الضمنية للطفل الذي يعتبرها الحبيبة الأولى و النموذج الذي تنبني عليه صورة الحبيبات القادمات، إن هذه الخيانة التي تجعل الأوديبية تصل ذروتها هي عصب العلاقة الثالوثية في شعر شكسبير، فشكسبير يعشق الأم فيفتقد الأب و يعشق الأب فيفتقد الأم، هذه المرأة التي تأجج صراعاته الجنسية و الوجودية و القيمية بخيانتها و في العلاقة الثالوثية “علاج” غير واع أو واع عبر الأدب لهذه الظاهرة فكأنه بذلك يحصل على الأب و الأم معا بل يستعيدهما و هو أمر مستحيل في الواقع إلا أنه مسموح في الساحة الشعرية الإنجليزية المتأثرة بالأدبيات اليونانية مما يُعطي نص شكسبير وجاهة و شرعية “لدي معشوقان، في واحد (الأب) الراحة و في الآخر (الأم)/ و هما مثل روحين، يُغويانني دائما/ الملاك الخيّر رجل تامّ الجمال أبيض/ و الروح السيئة امرأة ملوّنة بالقبح(…) تُغوي أنثايَ الشريرة ملاكيَ الصالح و تأخذه من جانبي (..) و ينتابني الشك في أن ملاكي قد يتحول إلى روح شريرة/ غير أني لا أستطيع الجزم قاطعا بذلك/ لكن لأن كليهما بعيد عنّي، و كل منهما صديق الآخر” سونيت العشيقان 144 ص 120.
إن الشاعر يتعاطف مع الأب بحكم إنتمائهما لنفس الجنس و هذا يخفف حدة الشهوة تجاه الآخر كما يتعاطف معه لأنه يشترك معه في تلقي فعل الخيانة كزوج و لكن لفظة الكراهية تتكرر في السونيتات مرّات عديدة لتدل على هذه العلاقة المشبوهة تجاه الذكر/الرجل/ الأب “إذن- إذا كنتَ ستكرهُني يوما- فاُكرهْني الآن/ الآن و العالم كله مصمّم أن يُحبط كل ما أودّ أن أفعلَهُ / كُن شريكا لنوائب الدهر ضدي و اُجعلني أنحني/ و لا تأتينّ متأخرا بعد كل الضربات لترميني بطعنة منكَ” سونيت ذروة العشق 90ص108 هذه الكراهية تتجلى تجاه الأنثى/ المرأة/ الأم “لكن يا حبيبة، اُستمرّي في الكُره، فإنني الآن أعرف كيف تفكرين: إنك تُحبين المُبصرين، و أنا أعمى” سونيت كراهية149 ص 123
إنها لغة شكسبير النفيسة التي يستعمل فيها الأبطالُ سلاحاً متساوياً يجعل التراجيديا حرباً بلا هوادة لغة و عاطفة، إنها تستهلك اللغة حتى آخر رمق فيها حتى يتقطع ذلك الخيط المتوتر بين الواقع و الخيال، بين المبنى و المعنى.
«THE DARK LADY »أليست المرأة الداكنة هي اُمرأة الظل
المرأة المحرّمة التي تسكن أشعار شكسبير و هي وعاء التوتر بين الفضيلة و الرذيلة “فلقد أقسمت أنكِ جميلة و آمنتُ أنكِ متألقة/ أنتِ السوداء سواد الجحيم، الحالكة حُلكة الليل البهيم” سونيت حُمى العشق147ص 122 إن الحب يمتزج عند شكسبير بالإثم و لهذا فهو حبّ طاغٍ عنيف تتصادم فيه المشاعر و القناعات و هو حُبّ مُدمّر للذات بما هو ضد تيار المجتمع و الاخلاق فلا مُسوّغ له إلا الفن إذا خرج من حوضه يموت “آه، أيها الحب ما أدهاكَ، بالدمع تُبقيني دائما أعمى/ لئلا تكتشف عيناي، إذا اُنجلى بصرهما، عيوبك الفاحشة”سونيت الحب المضلل148ص123
و هو يُذكر بالمناخ الاغريقي الذي يكون فيه البطل تراجيديا يدخل في صراع غير متكافئ مع قوى خارقة لا ليهزمها بل ليتطهر عبر اللغة من خلال التعبير الصادق عن مأساته التي لا يَدَ له فيها فحساسية الشاعر تجعله يتطلب من مُحيطه حُبّا و اُهتماما أكثر من غيره و هو يًُسقط علاقته الفاشلة مع أمه (بحكم وُجود الأب من جهة و العشيق من جهة ثانية) على علاقته بالحبيبة و يسِمها بالعدائية في علاقة لا تقبل ثالثا فإما العشق و إما الكراهية: “هاتان الشفتان اللتان صاغهما إله الحب بيديه/ أصدرتا الصوت الذي قال:”أنا أكره”/ لي، أنا الذي ألوب عذابا بسببها (..) “أنا أكره”، ثم حوّرتها بخاتمة تبِعتْها/ مثلما يتبع النهارُ العذب الليلَ/ الذي يُقذفُ طائرا، كما تطير روح شريرة/ من الجنة إلى الجحيم/ “أنا أكرهُ” أفرغتْها من الكراهية/ فأنقذتْ حياتي/ إذ أكملتْ قولََها: غيرَكَ لا أنتَ” سونيت لعبة الحبيبة 145 ص121