نقد المختصر الموضوع في السياسة

نقد المختصر الموضوع في السياسة

مؤلف الكتاب الحسين بن علي بن الحسين، أبو القاسم الوزير المغربي (المتوفى: 418هـ)
استهل الوزير كتابه بالقول أن من ألف فى السياسة عليه أن يكون كلامه مختصرا لأن السلطان وقته ضيق لكثرة المشاغل لا يستطيع فيه قراءة المطولات والسلطان العادل لابد أن يحب العلم وفى هذا قال :
“حق على من رسم رسما في السياسة أن يجعله في غاية الاختصار لأن المقصود بفائدته العظماء وهم مخصوصون بكثرة الأشغال والتسرع إلى الضلال على أن أفضل ما في الناس عموما وفي السلطان خصوصا محبة العلم والتشوق إلى استماعه والتقريب لجملته فإن ذلك دليل على قوة الإنسانية ومن أعظم ما يتحبب به إلى الرعية ثم فيه مع ذلك استعراض للتجارب والاستعداد للنوائب إذ كانت أخبار الأولين تدل على آراء تجلت لهم أوائلها واحتجبت عنهم عواقبها ونحن بتأملنا ما آلت إليه أمورهم وأثمر لهم تدبيرهم نعلم من آرائهم الأول والآخر والهوادي والصدور”
وبين الكاتب أن السياسة وهى طرق التعامل إحداها تختص بالسلطان نفسه والثانية بالحاشية وهى خواصه والثالثة الرعية وهم العامة فقال :
“أنواع السياسات
والسياسات ثلاث سياسة السلطان لنفسه وسياسته لخاصته والثالثة لرعيته فالسائس الفاضل إنما يصلح نفسه أولا ثم يصلح بسياستها خاصته وما يحملها عليه من الآداب الصالحة لرعيته فينشأ الصلاح على تدريج وتسود الاستقامة على تدريج”
وهو نفسه التقسيم الطبقى لسادة وضعفاء الذى يتواجد فى كل المجتمعات الكافرة كما قال تعالى على لسان الضعفاء فى جهنم ” وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب وإلعنهم لعنا كبيرا”
المجتمع المسلم لا يوجد فيه سادة أو ضعفاء وإنما هو مجتمع اخوة كما قال تعالى ” فأصبحتم بنعمته اخوانا”
والحاكم فيه لا يحتاج لبشر أن يكتب له كتابا فى معاملة الناس لأم الله وضع المعاملات كلها فى كتابه فقال “ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون”
ابتدأ الوزير الكتاب بسياسة السلطان لحاجات جسده فقال :
“باب إصلاح السايس نفسه
فمن إصلاح نفسه إصلاح بدنه أنه كالقالب لنفسه والوعاء لجنسه وأول ما يلزمه من إصلاح جسمه تمرينه على إيذاء القر والحر فإن الإنسان في هذه الدنيا على جناح سفر وبإزاء غرر وغير والرئيس متى اتصل نعيمه ورق أديمه بأن أثر المشقة عليه وظهر الجور والعجز منه”
وهو هنا يبين وجوب تدرب السلطان على احتمال كل المناخات ثم قام باسداء النصائح فى الغذاء فقال:
“الطعام
ومن مصالح الجسم تجويد صنعة الطعام فإن استطابة المأكل تقوي الطبيعة على الاستمرار والهضم وبالضد أن لا يتناول منه شيئا إلا بعد استمراء ما أكله قبله ونقاء المعدة منه وقال لنا صاعد استعمل الرياضة اللائقة بك ولا تكظ المعدة وقد أمنت الأمراض كلها
ومن الحكمة في الغذاء أن يكون لونا أو لونين متجانسين فإن اختلاف الألوان يؤدي إلى سوء الاستمرار ويجب أن يتعود الحكيم على ذلك ويوفر غيره مما تزين به الموائد على ندمائه وجلسائه ومن الحكمة فيه أن لا يستوفي نهمته كلها منه حتى يملأ المعدة لأن الطعام إذا بدأ بالنضج ربا وانتفخ فإن لم يجد في تجويف المعدة متسعا أعقب الكظة”
ونصيحة استطابة المأكل هى نصيحة باطلة فلابد أن يتنوع الطعام ولا يكون طعاما هينا كما هى عادة المترفين الكفار وهذه النصيحة تتعارض مع نصيحة تعود الجسم على الأحوال المختلفة
ثم قدم الوزير نصائحه وهى ليست نصائح وإنما تزيين للباطل فالرجل يبيح للحاكم تناول الخمور بمقدار لا يغيب عقله منه فقال :
“الشرب
ومن الحكمة في الشراب أن لا يبلغ الحكيم منه مبلغ يزيل العقل ويصدئ الذهن بل ما يكسب هزة وأرحية وأقبح ما بالسلطان أن يبلغ آخر أمد السكر فيبقى سلطانه في ذلك الوقت مهلا بل يجعل لنفسه وظيفة يتعلل بشربها ولا يتعداها ويتناول منها في أول مجلسة كؤوسا وافرة توقد نار الطبيعة وتذكيها ثم يتعلل بعدها بما يستديم المؤانسة إلى أن ينقضي وقت الشراب وهو ثمل طيب النفس غير زائل العقل وليحذر النهض من مجلسه وقد انهتك الستر بينه وبين خدمه وحاشيته ومن الحكمة في الشرب إعباءه وإفراد يوم له ليتناول له على حمام له ونشاط إليه فتتوفر لذته ويكون أكثر زمانه لما يهمه ومن الحكمة فيه إخلاء المجلس له إلا من أخص الندماء وقد أطرحت الحشمة معه وأن لا يحضر خدمته إلا العدد اليسير الذي لا يستغنى عن خدمتهم”
الغريب فى تزيين هذا الباطل لأنه يتعارض مع نصيحة قادمة تقول :
“فأول سياسة الملك لنفسه استعمال تقوى الله تعالى”
فكيف يتفق شرب الخمور مع تقوى الله؟
والكاتب ينصح السلطان بالسهر لمتابعة الأحداث فيقول:
“السهر
والصبر على السهر من أشرف صفات الملوك وغلبة النوم من أدونها ويجب أن يسهر ربع الليل الأول ويستيقظ وقد بقيت منه بقية صالحة وأن يستعين بنوم النهار لأنه لا يخاف من طروق حوادثه وفوت تلافيها مما يخاف من حوادث الليل جلب الحوادث الهائلة ولذلك وجد في الحيوان المخلوق للحراسة كالكلاب والإوز طبيعة السهر”
وهو كلام يخالف الشرع فالسهر مطلوب بقراءة القرآن وليس لمتابعة الحوادث فالدولة فى الإسلام منظمة تنظيما يفوق التصورات فلو أن كل فرد فى وظيفته قام بواجباتها كما أمر الله فلن يحتاج حاكم ولا غيره للسهر من أجل هذا وإنما يسهر الحكام فى الأنظمة الكافرة خوفا على كراسى السلطة وليس لرعاية الرعية وكلهم يسهرون إما للعربدة والسكر أو لإصدار الأوامر بالاعدام والسجن وغير ذلك من المحرمات
وبين حاجة السلطان للحمام لأن جسمه نتيجة الراحة لا يقوم بتخليص نفسه من السموم والنفايات فقال :
“الحمام
ومن حفظ الصحة الحمام ومنها استفراغ فضول الأطعمة والأشربة والملوك إلى ذلك أحوج من الرعية لأن الرعية تنفي ذلك عنها بالحركات والصنائع الشاقة ومن احتاج إلى تنقية بدنه من الفضول بالحمام فليدخل البيت الثالث بمقدار ما تحتمله طبيعته ثم يصب على جسده بعده ماءا فاترا ليجفف المسام ويرد الحرارة إلى مقر البدن ويمنع من كثرة التحلل وإذا خرج منه فليحذر كل الحذر مبادرة الأكل والشرب إلا بعد استراحة ونومة يسكن بها ما عرض في بدنه من التموج والاضطراب فإن ذلك خطر وجالب لكثير من العلل”
وهو كلام يبين أن الحكام الكفار مستريحون وهم حتى لا يهضمون الطعام بسبب عدم عملهم ومن ثم بحاجة للحمام لإزالة تلك السموم والحاكم فى الإسلام كغيره من المسلمين يعمل ولا يستريح مثلهم إلا كما قال الله وهو ما يتعارضون مع فقرة قادمة عن العدل تقول ” وأن لا يظن أن غرض الوالي تحصيل الراحة والدعة بل هو أحق الناس بالتعب وأولاهم بالنصب”
ثم بين أن على الحاكم ممارسة بعض الرياضات حفاظا على الصحة فقال :
“الرياضة
والرياضة من أعون الأمور على حفظ الصحة فلتكن أمرا قصدا وبحسب العادة والاحتمال ومن أصلحها للملوك اللعب بالصولجان لأنه مع الرياضة تخفيف للحركات وتعود للمناقشات”
بعد النصائح الخاصة بالجسم بدأ فى توجيه نصائح تتعلق بالنفس فطلب منه تقوى الله بالقول:
“تقوى الله
فأول سياسة الملك لنفسه استعمال تقوى الله تعالى وأن لا يخلى وقته من ذخيرة يدخرها بينه وبين ربه ثم الإكثار من تذكر نعمة الله عليه في أن رفعه وخفضهم وملكه تدبيرهم وفضله عليهم” وهو يكرر النصيحة وهو لا يعرف فطلب عدل الحاكم هو نفسه تقوى الله فيقول :
“العدل والإحسان
فيواصل حمد الله تعالى عليه ويجعل من مجازاة نعمة الله عليه العدل فيما ولاه والإحسان إلى من استرعاه والسهر لنومهم والتعب لحراستهم وأن لا يظن أن غرض الوالي تحصيل الراحة والدعة بل هو أحق الناس بالتعب وأولاهم بالنصب”
وابتدأ الوزير التخريف المعهود من كتاب السياسة وهى ان لذة الحاكم فى مدح وشكره فقال :
“اللذة للحاكم جميل الذكر
واللذات إما مباشرة للأعمال ببدنه أو نفكر فيها بقلبه والسائس الفاضل لا راحة له بالحقيقة ولا طريق له إلى اللذة إلا بمقدار ما يحمي نفسه في أوقات يسرقها من زمان شغله فيجب أن يوازن بها ما يتعوضه عنه من جميل الذكر وجليل الذخر ثم رضا سلطان له إن كان فوقه ولا رتبة أبهى من رتبة العز ولا زينة أجل من زينة المقتدر النافذ الأمر ولا حيلة أحسن من حلية الثناء والشكر فهذه لذات الساسة الحكماء وأعواضهم من الكد والعناء هم حفظوا الأصول فقد ينالون الفروع التي هي اللذات في أوقات لا تخل بأشغالهم فيجمع لهم الأمران”
وبالقطع فى الإسلام لا شضكر على واجب من قبل الأفراد فلقد حرم الله على المؤمنين مدخ أنفسهم فقال “فلا توكوا أنفسكم هو أعلم لمن اتفى “
المدح هو أول طريق الفساد والظلم لأنه يجعل الحاكم يظن أنه أفضل من الكل فيبدا فى تخصيص نفسه بالمزايا والمنافقون يعرفون هذا فيبدئون فى كيل المديح وهو بدوره من المزايا يعطيهم فيضطر بذلك ‘لى ظلم الرعية لأنه ما يأخذه من مزايا لنفسه ثم لحاشيته الماحة هو نقص لحقوق الناس
ثم اسدى النصيحة للحاكم بعدم تأخير الـأعمال عن وقتها لأنه هذا يؤدى لخراب الدولة فقال :
“أداء الأعمال في وقتها
ثم ليحذر كل الحذر من تأخر عمل يوم إلى غد فإن لكل وقت شغلا وهذا الخلق من المدافعات بالمهمات أدهى الدواهي التي تتابع لها الخلل وانهدمت لها الدول”
ثم بين أن عليه أن يجعل الناس تطيعه بالترغيب وليس بالترهيب فقال :
“طاعة محبة لا طاعة رهبة
ثم ليجتهد أن يجعل طاعة الخاصة والعامة له طاعة محبة لا طاعة رهبة فإذا أطاعوه محبة حرسوه وإذا أطاعوه رهبة احتاج إلى الاحتراز منهم
وشتان بين حالين إحداهما تجعل الناس حراسا والأخرى تحوجه إلى الاحتراس منهم ولسنا نعني بزوال الرهبة خلو قلوب الرعية منها بالمواحدة وإنما نعني أن يكونوا في حال رهبتهم له واثقين بعدله آمنين من تعسفه وظلمه فتكون الرهبة حينئذ كمخافة الولد لوالده برفق أو أدب ويعلم أنه لا يريد إلا خيرا له”
وهو يناقض كلامه فى أول الفقرة عن كون طاعته لا تكون عن طريق الترهيب بقوله” لسنا نعني بزوال الرهبة خلو قلوب الرعية منها بالمواحدة وإنما نعني أن يكونوا في حال رهبتهم له واثقين بعدله ” وهو ما يتعارض مع قوله تعالى ” ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”
ثم بين ما سماه رأس السياسة وهو أس الفساد فيها وهو المكافئات فقال:
“إنجاز الوعد والوعيد
ورأس السياسة إنجاز الوعد والوعيد ومكافأة المحسن والمسيء والوفاء في الجد والهزل والاستخدام بالكفاية لا بالغاية والتيقظ للأخبار في القرب والبعد فمن أحرز هذا الفضل وأحاط بمعانيه أحاط بالسياسة كلها”
وليس فى الإسلام مكافئات مالية او غيرها من متع الدنيا وهذه المكافئات التى يخص بها البعض تكون بداية للظلم فهو يغطى زيادة للبعض فهو ينقص من حقوق ال×رين والمكافئات فى الإسلام أخروية وليست دنيوية
وأعاد نصيحة التقوى أى العدل من خلال ألفاظ أخرى تطلق على أمور منهم فقال :
“إحراز فضائل النفس
وليجتهد في إحراز الحظ الجزيل من فضائل النفس وهي
العلم والعفة والحلم والسخاء والشجاعة فمن العلم معرفته بما يأتي ويذر وشدة بحثه عن كل ما جل ودق ومن العفة تنزهه عن المكاسب التي فضلتها الرعية ويجتهد أن تكون وجوه دخله مناسبة لجلالة قدره وعلو منزلته لا يهتك فيها للدين ولا للمروءة سترا ولا يبعث بها على أحد الرعية انتقاصا وظلما
ومن الحلم تأخير عقاب المقصر إلا بعد تكرير تنبيهه والإغضاء عن أول وثان من جرمه فإذا انقطع العذر أوقع العقوبة بموقع السياسة لا التشفي والعدل لا التعدي وأما السخاء فإن لا يمطل حق ولا يخيب أملا ولا يؤيس قاصدا فإنه يستعيض بعز الولاية وجه القدرة خلقا من كل ما ينفقه وليعلم كل وال أنه وكيل الله على ماله وأن عليه حقا واجبا لكل ابن سبيل ومنقطع به فليخرج إلى موكله مما يلزمه له وألا يأمن من استبداله به وحفظة عليه ومن الشجاعة أن يشعر قلبه أنه لا يجوز أن يكون الجبان ضابطا لأمره ولا حارسا لرعيته وأنا إذا استشعر أعداؤه وأولياؤه ذلك طعموا في عطفه وتدرجوا إلى إطراح مراقبته وأن يجعل وكده كله جمع الرجال والأسلحة والخيل والعدو”
وهو كلام مكرر لا فائدة منه فالتقوى شاملة وهى العدل وهو شامل هو الخر لكل شىء
ثم بين ضرورة الاتعاظ بما حدث للسابقين فقال :
“الوقوف على أخبار الماضيين
وأن وقف السائس بتحصيله فليدرس أخبار الماضين ليتجنب أقبحها ويعتمد أصلحها فإنه باب عظيم من أبواب السياسة”
وبعد هذا استهل الكاتب النوع الثانى من السياسة وهى سياسة البطانة أى الحاشية فقال :
“باب سياسة الخاصة
إصلاح أخلاق الخاصة
اعلم أن سياسة الخاصة ليست كسياسة العامة لأن سياسة العامة استحفاظ طاعتها وإقامة الرغبة والرهبة فهيا وإفاضة المعدلة عليها من غير أن يحدث نفسه إلزامها الآداب الصالحة فإن ذلك عسير لا يرام لكن الخاصة يجب أن يعتني بإصلاح أخلاقها وتهذيب آدابها لتقوى على حقوق الخدمة التي تلزمها وإذا كان للرئيس فهي كالأعضاء للبدن فمتى لم تكن الأعضاء على الهيئة الفاضلة أو عرض لها أمر يثني كلها أو بعضها عن فعله الأصلي الموظف له وقع الاضطراب في جملة البدن
تفقد أحوال الخاصة
وأول ما يجب اعتقاده في هذا الباب أن السائس لا يستغني عن تعقيف خاصته وتفقد أحوالهم وتقويم زيفهم وإن كانوا حصفاء أسداد مثله في ذلك كالصانع الذي يحتاج في صنعه إلى آلات وتلك الآلات لا يجوز أن تبقى على حالها مستقيمة بل منها ما يكل فيشحذه ويعوج فيقومه ويفسد فيصلحه وكذلك السائس يجب أن تكون له عين راعية تتفقد أصحابه ليتلطف في تثبيت صلاحهم ونفي فسادهم بما يتهيأ وما يحتاج إليه في هذا المعنى أن لا يعتقد أنه استغنى أو استكفى كافيا أمرا يهمه فقد استغنى عن تفقده وتعهده بل يجب أن يتصور أنه مضطر إلى مراعاته وملاحظته بنفسه كالأستاذ في الصنعة الذي يكل إلى تلاميذه ما يصنعونه إلا أنه يراعيهم ليأمن خللا يجري فيه وهذا أصل عظيم ينبغي أن يوقف الفكر عليه والاهتمام به
خصال الحاكم مع الخاصة
ويجب أن يستخدم خواصه على المخالصة والمحبة الصرف بلا مزاح وطريقه أن يستعمل معهم أربع خصال
أولها الإحسان إليهم فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وأن يتفقد أحوالهم فيرم شعثها ابتداء قبل المسألة ليدل على خلوص الاهتمام ولطف العناية فإن قليل الابتداء أهنأ وأحسن موقعا من كثير
العطاء بعد السؤال
وثانيها بسط آمالهم بالعفو عن الزلل والثالث أن لا يستقصي عليهم في أزمنة خدمتهم حتى لا يحدد ترحة لراحة نفوسهم ولذاتهم ولكل إنسان وطر يجب أن يقضيه ويتنغص عيشهم بمناقشته فيه ويلحقهم بالاستقصاء ضجر وملال يفسد الخدمة فإذا ساهلهم الرئيس بعض المساهلة كانوا في خدمة أنشط ومحبته أبدا في قلوبهم تنمى وتتجدد والرابع أن يؤمنهم إسراعه إلى قبول كثير من ثقل الأصحاب وأقل ما يوجد في الناس الكافي الأمين فإذا اجتمعا فهو الجوهر الثمين
فأما كاتب الرسائل فمن يوثق بكتمانه بليغ في بيانه فإن العبارة الحسنة تؤثر آثار عجيبة في القلوب ويكون متفننا في العلوم وأن يطالب فيوجد عنده علم كل ما ورد إليه وصدر عنه في أوقاته وأما لحاجب فطلق الوجه مقبول الشمائل محبب ليوصل من يصل بإكرام ويصرف من لا يؤذن له برفق ولطف كلام ويجب أن يعرف طبقات الناس كلها لينزلهم منازلها ويطالب بإنهاء كل من يحضر في وقته وأما جابي الأموال فحسن المعاملة للرعية منصف منتصف مع طلق نفس وطبيعة في التمشية والرفق وأن يعتبر في كل وقت بمسألته عن دخله وخرجه وأما قائد الجيش فيكون شجاعا فارسا عارفا بآلات الجندية ذا حفظ من الرأي ويطالب بمعرفة أحوال الجند المضمومين إليه ليعرف الحاضر من الغائب ويلزمهم الباب في أكثر الأوقات بالعدد التامة ليرهب بذلك رسل الملوك وجواسيس الأعداء وصاحب الشرطة مهيب المنظر عبوس جليل في العيون غير ذي دعابة معروفة يأخذ بالاشتداد على أهل الريب ويتبعهم في مكانهم صاحب ثقة معروف بالصدق ناصح أمين معتدل الطبائع قليل العلق في المعاملات ولا يقيل عثرة من كذب بنهية فإن التدبير كله على قوله والحاكم يجب أن يكون عالما عاقلا مأمون الباطن غني النفس والمحتسب أمين ثقة حميد السيرة عارف بوجوه المكاسب والغشوش ومصالح الرعية”
وما قاله الرجل هنا هو سبب فساد اى دولة وتحولها من العدل للكفر فمتى أعطيت مزايا للحاشية عن باقى الناس فقد ساد الظلم لن ما يعطى من المزايا هو انقاص لحقوق باقى الناس ومعاملة الحاكم لكل الناس واحدة قوامها العدل ومن ذكرهم من الحاشية ليسوا خدم أو موظفين عنده فى الإسلام وإنما الكل فى الإسلام واحد كلهم كالبنيان المرصوص كل جزء منه لازم حتى لا ينهد البنيان
وما ذكره من وجود صفات محددة لصاحب كل وظيفة باطل فأخلاق المسلمين واحدة
ثم تحدث عن مظالم الناس فبين أنواعها قائلا:
مظالم الناس
ومظالم الناس صنفان
صنف ظاهر كالفسق المجاهر به ونحوه وصاحب الشرطة يتولاه وصنف مكتوم والمحتسب يتولاه وربما كانت مظالم هذا النوع أعظم ضررا من النوع الآخر لأنها خافية لا يهتدي إليها والمختار المتوجه في الرسائل حسن الرواء مقبول ناصع اللسان حافظ لما يقوله ولما يقال له يؤمن في التعريف والتمويه”
ثم استهل النوع الثالث من السياسة وهى التعامل مع العامة فقال :
“باب سياسة العامة
العامة في الموضوع الذي بكثرته يتسع الملك وكلما كثروا كان الملك أوسع وإصلاح العامة عسير لكثرتهم وقلة التمكن من مداواة الفساد العارض فيهم فإن الملك عند اضطرابهم إن رام شفاء غيظه منهم لم يتم له ذلك إلا بخراب بعض العمارة ولبلوغ ما زعزع من أركان السياسة فليجتهد في حفظ نظامهم وأن لا يحوجوا إلى بلوغ هذه الغاية فيهم
حزم الملك بحسن سياسة الرعية
ويستدل على حزم الملك يحسن سياسة الرعية وجمع كلمتهم على طاعته للتباين الموجود في أهوائهم وإن الشدة والعنف لا تصلحهم واللين والمساهلة لا تجوز في معاملتهم فمنهم من تفسده الكرامة ومنهم من تفسده الإهانة
التعرف على طبقات العامة وعراتهم
وأول ما يجب في سياستهم معرفة طبقاتهم وتمييز سرواتهم فيطالبهم بالخدمة له والسعي إلى بابه إلا من ظهر عذره وبان عجزه ولا يجوز للزهاد والعلماء الانقطاع عنه إلا من وقعت اليمين الخالصة بانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية واعتزال الكافة ويترك ما يختلط به الرعية كأبي علي بن أبي الهيش على شأنهم والتبرك بدعائهم والحذر من الإثم فيهم وأما من دونهم من المتشبه بهم فليوسعوا عدلا واستخداما ولا يكونوا من التصون عن مجالس الملوك والسعي إلى أبوابهم فإن في فسادا قد شرحه أزدشير في عهده يغنينا عن ذكره وهؤلاء الذين يطالبهم الملك بقصد بابه فلهم عليه حق يقتضي تعرف أخبارهم وصيانة جاهم وترتيبهم في مراتبهم واختصاص كل واحد منهم من ذلك بما يقتضيه طبعه في الخير والشر والنفع به والضر
إكرام الأخيار
ثم يبالغ في إكرام الأخيار من الطبقات التي دون ذلك وقمع الأشرار وقصد من يتحقق بطاعته بمجازاة تزيد في بصيرته والإنحاء على من ينحرف عن موالاته بما ينكله وينكل غيره عن مثل طريقته ثم إفاضة العدل التام الذي ينال كل منهم نصيبه الموفور منه ثم تسهيل الإذن بقلع الظلم من أصوله وغرس محبة الوالي في قلوب الرعية ثم حفظ أطرافهم وأمان سبيلهم لتتوفر معايشهم وتدر متاجرهم واستعمال العقوبة الناهكة بأهل الدعارة واللصوص من القتل المبير والحبس الطويل فهم كالشوك بين الزرع لا ينمي ولا يصلح إلا بتنقيته منه ثم التعطف على الضعفاء وترفيههم عن الكلف السلطانية من تسخير لهم أو استعانة بهم
وليعلم أن كثيرا من الفتن تهيج بشكاية الضعفاء وحقد الأغنياء ويجب أن يتناول ما بعد منهم من السياسة والعدل بمثل ما يتناول به القريب أو أكثر وليس بسائس من خص بحزمه بعض ملكه ومثل العارض البعيد إذا لم يستدرك عاجلا كمثل العضو يسقم من البدن فإن تلوفي وإلا سرى فساده في الجسد”
ما قاله الرجل هنا هو سياسة الكفار للحفاظ على طبقات المجتمع وفى الإسلام ى توجد طبقية فالكل اخوة وهو على حد المساواة مع الحاكم لن الكل هدفه واحد وهو إعلاء دين الله بطاعته ومن ثم فالسياسة لا تكون هكذا فى الإسلام وإنما هى طاعة أحكام الله من قبل الكل والحاكم ليس إلا مراقب عام المفترض أن يكون هو أكثرهم عملا للخير وبعدا عن الشر من خلال علمه ومن ثم فهو يبحث عن مواضع الظلم لازالتها من قبل الولادة أو غيرهم
ثم بين الكاتب أن الرشا أس الجور والفساد فقال :
“ولا يكونن الملك لشيء أنكر منه لرشا العمال والأصحاب فإنها أس الجور والفساد وصلاح الأطراف البعيدة لشئيين رفع الحجاب للمتظلمين وبعثه في كل وقت الأمناء الثقات المتعرفين”
والكاتب نفسه بدأ الفساد وهو الرشا من خلال اباحة مدح الحاكم والثناء عليه فمن أكثر المدح فقد أعطى الرشوة له وبدا الفساد
وابتدأ الوزير الكاتب فى الخبل الذى يؤدى للظلم وهو أن يجمع الحاكم ذوي الأخطار والعلماء وأهل الأبواب بالتقريب واختصاص الواحد منهم بعد الواحد بالتأنيس والإكرام والمؤاكلة والمنادمة وهذا هو ما سبق أن ذكرناه مرارا أن اعطاء قوم زيادة عن الأخرين يعنى نقص الباقين حقوقهم وكل هذا من أجل شىء واحد وهو البقاء رفى السلطة وفى هذا قال :
“ومما يحتاج إليه وقد مر نبذ منه تعهد ذوي الأخطار والعلماء وأهل الأبواب بالتقريب واختصاص الواحد منهم بعد الواحد بالتأنيس والإكرام والمؤاكلة والمنادمة ولا يجعل أنسه كله مقصورا على خاصته وليكن ما يفعله من أمر هؤلاء الأماثل بددا غير محصور والغرض فيه الإيناس وإزالة النفور ثم إحسان مجاورة جيرانه في الممالك التي تلي مملكته فحاله معهم كحال الواحد من السوقة مع جيرانه لما أسست عليه الدنيا من الحاجة إلى التعاضد وأن يبالغ في بر الواردين عليه من رسلهم وأن يتصنع لهم بتفخيم مجلسه وإظهار جماله وزينته ومظاهرة بره لهم وتكرمته
والله الله وأن يطيل حبسهم عنده ففي ذلك من الفساد ما يطول شرحه والمدة التي يقيمونها فليكونوا محروسين ملحوظين من مخالطة أحد من الخاصة والعامة إلا من عرفه الملك ثم يتفقد مدينته بل مدنه كلها بضبط طرقها ومعرفة من يدخلها ويخرج منها والوقوف على الكتب المختلفة إلى أهلها من التجار وغيرهم وليضبط مدينته ضبط الرجل من الرعية داره ولا يخرج عنها أحد إلا بحواز ولا يدخلها إلا بإذن”
المسلمون كما قلنا وحدة واحدة لا يوجد منهم ذو خطر ولا باب ولا ما شابه هذا وكلهم متعاونون على الخير ولا يجوز لأيا منهم أن يتميز على ألأخرين
ثم أنهى الرجل بكلامه عن المخابرات وهى الأخرى عامل كبير فى تحول الدولة من العدل للظلم لأن الحاكم عليه أن يكثر العطايا والأموال لهم للحصول على أخبار وأسرار القريبين وهم الشعب والبعيدين أى وهم الأعداء فيقول :
“المخابرات
ثم يوكل بالأخبار والبحث عن الأسرار فيما قرب منه وبعد عنه وجاوره من ولي وعدو ومبلغ ما عندهم من عدة وما يتجدد لهم من عزيمة وهذا أمر يجب أن يسمح به بكل نفيس ولا يضن عنه بمال ولو كثر فربما دهمه من مجاوريه إلى غفلة ما يود لو سبق به علمه لو أنفق الأموال الجزيلة عليه”
وأنهى كتابة كما أنهى الفارابى كتابه فى السياسة بنقول من هنا وهناك فقال :
“ختام
وقد رأينا أن نختم هذا التعليق بكلمات لأبي بكر الصديق رضوان الله عليه مما وصى به يزيد بن أبي سفيان لما أنفذه على العساكر إلى الشام فإنها من البلاغة البديعة والوصايا العجيبة
وهي قوله ابدأ جندك بالخير وعدهم ما بعده وإذا وعظت فأوجز فإن الكلام إذا كثر نسى الأول بالآخر واصلح نفسك يصلح لك الناس فإن الأمير إنما يتقرب إليه بمثل فعله ولا تغفل عن الصلاة إذا دخل وقتها وليؤذن المؤذن في عسكرك ثم أبرز فصل بمن أحب الصلاة خلفك وإذا قدمت عليك رسل العدو فأكرم منزلهم وأقلل مقامهم ليخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به غير عارفين بخلل إن كان فيه وأنزلهم في جمهور كثير من عسكرك وامنع كل واحد من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم
ولا تجعل سرك مثل علانيتك فيختلط أمرك وإذا استشرت فحقق الحديث ولا تكتم بعض ليتحقق الرأي فإذا علمت للعدو عورة فاكتمها حتى تأتيها واسهر بالليل في مجلس تتحدث فيه مع أصحابك فإن ذلك يأتيك بالأخبار وبدد حرسك وأكثر مفاجأتهم في ممارسهم بغير علم منهم بك فمن وجدته قد غفل عن محرسه فعاقبه واجعل حراسة الليل بينهم نوبا والنوبة الأولى أطول فإنها أيسر لاتصال النهار بها ولا تخف من عقوبتهم فيضعن الناس بأن يروك قد عممت بالحدود ثم خصصت بالعفو بعض الجنود ولا تلجن في العقوبة فإن أدناها وجيع ولا تسرع إليها وأنت تكتفي بغيرها ولا تغفل عن عسكرك فتفسده المتاركة ولا تجسسه فتفضحه المناقشة ولا تجالس العيابين وجالس أهل الوفاء والصدق وأصدق الفقهاء إذا لاقيت ولا تجبن فيجبن الناس ولا تقم بالمسلمين في موضع هلكة ولا تغرر بهم لرجاء فرصة ولا تعجلوا إلى اللقاء أن تأخر عنكم ولا تتأخروا عنه إذا حل بكم وتعاهدوا ضعيفكم وذا الخلة منكم وكلوا ظاهرا ولا تأكلوا في بيوتكم وإياكم والغدر بمن عاهدتم ولا تأمنوا عدوكم وإن كان بعيدا”
وبالقطع هذه رواية لا يمكن التحقق من كونها صحيحة أو باطلة مع أن الكثير منها صحيح

Related posts

Leave a Comment