كتب _ أشرف محمد المهندس
* قوله تعالى من سورة آل عمران على لسان السيدة مريم البتول : ( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) آية رقم ( ٤٧ ) ..
_ يحملك هذا النص البديع على التأمل والوقوف المدقق لعتباته اللغوية والجمالية … متخيلا هذا الموقف العصيب المحيط بالسيدة مريم عليها السلام … ومن ذلك :
أولا : _ ( رب ) … يقينا من حمل البشارة بعيسى عليه السلام إلى السيدة مريم في هذا النص هم الملائكة … وفي النص الآخر من سورة مريم هو جبريل عليه السلام في قوله تعالى : ( إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ) آية رقم ( ١٩ ) … لكنك تجد هذه الطفلة ( ١٣ عاما على الأغلب في هذا الموقف ) تنتقل من مقام مخاطبة ( الواسطة ؛ جبريل عليه السلام والملائكة ) إلى مقام مخاطبة المولى عز وجل مباشرة ملغية تلك الواسطة … هي تنادي ( رب ) دون توظيف أداة النداء ( يا ) ..تلغي حتى الأداة من هول الموقف وشدته … نعم إن الخطب جلل عظيم بكل المقاييس والتفاصيل … ولنتأمل هذه التفاصيل :
١_ من كان له حق الخدمة في المسجد الأقصى هم الذكور فقط … لكن نذر امرأة عمران ( أم مريم ) لما في بطنها محررا للخدمة في المسجد .. ثم ولادتها ( أنثى) .. والقبول الحسن من الله عز وجل لها .. كل ذلك شكل استثناء لقاعدة الخدمة وكسرا لنمطها الثابت ..مريم عليها السلام كانت استثناء ربانيا ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ) … هي مقصورة على الخدمة والعبادة …
٢_ صارت مريم عابدة لها مكانة عند الله سبحانه وتعالى ومنزلة …حتى أجرى الله على يديها الكثير من الكرامات والأمور الخارقة للعادة التي تعجب منها كل الناس … حتى تعجب منها أيضا نبي الله زكريا عليه السلام وهو نبي له مقام كريم عند الله سبحانه وتعالى… ( أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) …
٣_ كان لمنزلة مريم عليها السلام ومكانتها وما لها من كرامات السبب الرئيس الذي دفع نبي الله زكريا عليه السلام أن يطلب من الله سبحانه وتعالى طلبا شخصيا لنفسه وهو ( الولد ) … فإذا كان المولى عز وجل يعطي كل تلك الكرامات لمن هو ليس بنبي ( مريم / امرأة ) .. فمن باب المنزلة أن يطلب هو ..( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) .
_ ثم بعد كل هذه المقامات والتكريمات في حقها تتصور نفسها تقف أمام قومها تحمل طفلا .. كيف هذا ؟!!! الخطب عظيم… ولذا فإن المقام لا يتسع إلا للاستعانة بالله عز وجل … ولذا ( قالت رب ) ..
ثانياً : _ ( أنى يكون لي ولد ) … ليس هذا استبعادا لقدرة الله عز وجل … او اعتراضا على مشيئته … فقد عاينت ذلك وهي تتعبد … إذ كانت لديها مقدمات لتلك الكرامات … لكن الأمر هنا مختلف … الأمر أكبر من حدود الاستيعاب العقلي ..
( أنى يكون لي ولد ) توصيف لحالتها كلها .. الحالة الإيمانية … الحالة الجسدية … الحالة المجتمعية … الحالة النفسية …
( أنى يكون لي ولد ) اتهام لمجتمع كامل لا يقبل بالكرامات والخوارق حتى وإن أنسها منها قبل ذلك وفرح بها …لن يقبل هذا المجتمع مثل هذا النسق من الكرامات …بل وربما هذا المجتمع يجهز لمثل هذا النسق الاتهامات الثابتة والمقولبة … ( يا أخت هارون ما كان أبوك امريء سوء وما كانت أمك بغيا ) …لن يشفع لها أمامهم مكانتها ومنزلتها الإيمانية .. أو سيرتها المحمودة مجتمعيا …أو ذكرى والديها العطرة الطيبة … ولا شهادة النبي الكريم زكريا عليه السلام من قبل في حقها … كل ذلك لن يكون شافعا وشفيعا …ولذا ( أنى يكون لي ولد ) …
ثالثا. : ( ولم يمسسني بشر ) …سبحان من أنبتها نباتا حسنا إذ عبرت بأروع ما يكون من أسلوب عن الحالة المجتمعية المقبولة للإنجاب وهي ( الزواج ) …الولد يكون عن طريق النكاح والزواج .. لقد ارتقت السيدة مريم في اختيارها للصيغة التعبيرية المعبرة عن النكاح تنزيها لنفسها … وتطهيرا لكلامها من أن يتوهمه متوهم لا يفهم حين يسمع هذا الكلام …
_ ( لم ) توظيف بديع لأداة الجزم التي تفرض دلالة ( القطع والحسم ) … وتفيد معنى النفي اليقيني … نعم ( لم ) … إنها تقلب زمنية المضارع إلى الماضي … إنها توقف الزمن عند اللحظة الراهنة الحاضرة … لكنها تغلق دوائر الفعل في خط سيره من الماضي إلى الآن … ( لم ) تصرخ بكل قوة ( هذا لم يحدث في الماضي ولا في الحاضر ) … هذا محال …
_ ( يمسسني ) … صيغة مضارعة أغلقت زمنيتها بتوظيف ( لم ) … ولذا تجدها في دلالتها صيغة رقيقة … صيغة تدل على اللطف … وهذا هو المقصود هنا … مريم عليها السلام تنفي أنها اقتربت من بشري حتى ولو بالمس … إنها مريم … لم تقل : ( لم يلمسني ) لأن هذا في حقها محال … لأنه لو كان لكان لكم به علم لأنه ( نكاح ) ..
_ إن توظيف هذه الصيغة هنا وفي نص سورة مريم فريد في دلالته التي تتوافق وقلب ( طفلة ) تقبل بعفويتها على هذه الحياة … نعم لفظ يماثل صاحبته لطفا وعفوية ولطافة ورقة …
_ ( بشر ) ..نعم إنها الصيغة الأصل … حين الحديث عن النسل والتناسل يوصف بنو آدم بأنهم ( بشر ) … وكأنه تأصيل للصفة الطبيعية فينا … التناسل والنكاح فيه من البشرية الكثير والكثير … لأنه عمارة للأرض… فيه من الأصل الأول ( التراب ) الذي خلقنا منه …فمريم عليها السلام تعبر هنا أنها ليست من أهل هذا المقام ( البشري الترابي ) ..هي من مقام ( وأنبتها نباتا حسنا ) …هي من مقام ( ما في بطني محررا ) … هي من مقام ( أنى لك هذا ) … هي من مقام ( هو من عند الله ) …
_ إن لفظة ( بشر ) مع العبارة المذكور فيها فيه نوع من المناجاة .. نوع من الابتهال لله عز وجل بأنه ( لم يمسسني بشر ) .. فأنا منذورة للعبادة والطاعة والخدمة في المسجد … ليس لي كبير حظ من الدنيا … هي لا تجري أحكامها علي …
_ ولذا فإن هذه المناجاة البديعة منها عليها السلام تتوقف تماما عند إخبارها بأن الأمر كله من عند الله … الأمر كله رباني إلهي محتوم .. ( قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) … عندها امتثلت وشرعت في تحمل هذه الأمانة … وصيانة هذه المعجزة …
رابعا : _ إن هذا النص البديع يكشف لنا عن سمات هذه السيدة الفاضلة مريم البتول عليها السلام … يكشف لك عن خصالها الإيمانية التي تحققت بها … ويكشف عن الصفات المجتمعية التي تدرك أنها جزء منها ولا بد من مواجهتها … ويكشف عن خصالها النفسية التي توقفنا على هذا الثبات واليقين بموعود الله عز وجل لها … هذا نص يكشف عن جمال محتوى دعاء أمها ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) … وحين توسمت في هذه المولودة أنها الخير كل الخير فقالت : ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) …
_ إن هذا النص يقدم لنا نموذجا فريدا من النساء الكاملات نفسا وعقلا وروحا وقلبا ويقينا … يقدم لنا تفسيرا بديعا لقوله تعالى : ( وليس الذكر كالأنثى ) … إذا ما أردنا أن نفهم ونتدبر …. حقا حقا … إن السيدة مريم عليها السلام هي نفسها تفسير بديع لقوله تعالى : ( وليس الذكر كالأنثى ) …
_ اللهم اجعلنا ممن شرفتهم بشرف العبودية لك .