كتب _ اشرف المهندس..
حلقة اليوم من سلسلة الإيمان والأخلاق
مع فضيلة الشيخ الدكتور إسماعيل احمد مرشدى من علماء وزارة الأوقاف بالإسكندرية
صدق اعتماد القلب على اللّه تعالى في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة . والجرجاني: التوكل هو الثقة بما عند اللّه، واليأس عما في أيدي الناس والتوكُّل على الله من أفضل الأعمال القلبية بعد الإيمان واليقين، فلا يقوم الدِّين إلا على أساس التوَكُّل، ولا تستقيم الحياة إلا على أساسه، ولا يكون التوفيق والسداد إلا مع وجوده. ولقد عظمت منزلة التوكل على الله حتى صارت من الإيمان كمثل الرأس من الجسد، وصارت نهاية تحقيق التوحيد وساقي العبادة التي لا تقوم إلا بهما ولهذا قال ربنا ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ضل عنها كثير من المسلمين؛ إما للجهل بحقيقتها؛ وإما للعجز والتفريط فيها،قال العلامة ابن القيم: “فجعل سبحانه التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل
قال ابن عباس: التوكل هو الثقة بالله. وصدق التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك.وتفويض الأمور إليه وإظهار العجز له والانخلاع من كل حول وطول وقوة ومدد وعون إلا منه جل جلاله فهو المولى وهو النصير، وقال يَحْيَى بْن مُعَاذٍ الرازي – ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنْ صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ: الثِّقَةُ بِاللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْغِنَى بِهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ في كُلِّ شَيْءٍ.
التوكل على الله صفة المرسلين
والتوكل على الله عبادة الصادقين، وسبيل المخلصين، أَمَرَ الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى اللَّه عليه وسلم بالتوَكُّل عليه في تسع آيات من القرآن الكريم في جميع مراحل الدعوة؛ ففي القرآن المكِّي نَجِد قولَ الله تعالى:• ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود ].
• ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾[الفرقان ].• ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ [الشعراء ].• ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النمل ].
وفي القرآن المدَني نجد قول الله تعالى:• ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران ].• ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [النساء ].• ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنفال ].• ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [الأحزاب ].
وجاء الأمرُ للنبي صلى اللَّه عليه وسلم بالتوَكُّل بصيغةٍ أخرى:• ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ [المزمل ].• ﴿ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة].• ﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [الملك ].وأمر الله تعالى به أنبياءه المرسلين، وأولياءه المؤمنين،وحثهم عليه، وندبهم إليه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه:﴿ وَعَلَى الله فَتَوَكَّلوا إن كنتم مُؤْمِنينَ }[المائدة ] وقال الله تعالى في سبعة مواضع من القرآن الكريم: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾.
وأَمَرَنَا المولَى تبارك وتعالى أن نَتَوَكَّل عليه في طاعته وعبادته، فعلَّمَنا سبحانه أن نقول في كل صلاة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، وأمر الله تعالى بالعبادة مقرونة بالتوكل فقال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
ولقد كان النبي (ص) يُعَلِّم أصحابَه الاستخارة، كما يُعَلِّمهم السورة من القرآن؛ لما في صلاة الاستخارة ودعائِها من تدريب على التوَكُّل على الله، وتفويض الأمر إليه، فالمستَخير يُعلن عن عجْزه عن اختيار ما ينفعه، فيلجأ إلى ربِّه يطلب منه سبحانه بما لديه من علْم تام وقدرة بالغة أن يختار له ما ينفعه وما يُصلِحه، ثم يثق في اختيار الله عزَّ وجلَّ له، ويرضى بما قدّره الله عزَّ وجلَّ له. روى البخاري عن جابر بن عبد الله (ض)، قال: كان رسول الله (ص) يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال عاجل أمري وآجله – فاقدُره لي ويَسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال في عاجل أمري وآجله – فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدُرْ لي الخير حيث كان، ثم أرضني» قال: «ويسمي حاجته».
فهذا إبراهيم عليه السلام يلقى في النار التي لو قدر الله لها أن تأكله لما تحمل منها ذرة ولما قضى فيها ثانية بل ينتهي الأمر وينقضي في لمح البصر، فماذا قال إبراهيم حتى ينجو؟ تعلق قلبه بالله وحده وأعلن ذلك قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل فقال الله لجنديه النار”كوني برداً وسلاماً على إبراهيم”فخرج منها عليه السلام لم يمس بسوء.روى البخاري وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فهذا الخليل يلجأ إلى الله في الشدة بتجريد التوكل والتجرد من الحول والقوة إلى الاعتماد على رب البرية فيفرج الله شدته ويبدد الله ظلمته ويفك الله كربته.
وهذا الكليم موسى عليه السلام يخرج من مصر ببني إسرائيل هارباً من بطش فرعون الذي لو أدركهم لن يفلت منهم اليوم الكبار ويذبح الصغار كما كان يفعل، بل يقضي على الصغار والكبار في آن وقدر الله أن يذهب موسى ليلاً بقومه فيتجهون إلى البحر وينتهون إلى شاطئه وما إن وصلوا حتى سمعوا صوت صهيل الخيول وصليل السيوف فعرفوا أن فرعون وجنوده قد لحقوا بهم وتخيلوا مع هذا هدير شلالات الدم التي تقام بعد قليل من صلب وقتل وقطع ونسي القوم العظيم الجليل الذي أمرهم ابتداء بالخروج والتفتوا إلى موسى قائلين: “﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء ] هذا الجيش قد أتى وهذا البحر قدامنا منعنا من مواصلة السير فإلى أين المفر؟ إنا لمدركون لا محالة لا مفر لا محيد لا مهرب. فقطع موسى الكليم عليه السلام هذه الوساوس قائلاً في ثقة واعتماد وتوكل على الله: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء ] نعم “معي” هذه الكلمة كافية أن تطمئن النفوس الهالعة والقلوب المفزّعة فارتدت النفوس إلى القلوب لتطمئن القلوب بدورها الأطراف والجوارح.وقدم موسى عليه السلام لفظة المعية على لفظة الربوبية فقال: “إن معي ربي” ولم يقل إن ربي معي، ذلك لأنه يخاطب أنفسًا فى شك وريب وتردد لاتتمتع بثقه ولم يرسخ فى قلوبها إيمان أو يقين، وأنجى الله موسى ومن معه كما قال -عز وجل- ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء
ومِن تمام توكُّله على ربِّه؛ سماه اللَّه عز وجل المتوكل، ففي صحيح البخاري عن عطاء بن يسار، قال: لقيتُ عبدَ الله بنَ عمرو بن العاص (ض)، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله(ص)في التوراة؟ قال: ” أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب]، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا ) ولما مر ركب برسول الله (ص)وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبروهم بأن أبا سفيان جمع لهم، – وذلك بعد رجوعهم من غزوة أحد- قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ ـ فهل تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بقولهم ذلك؟ ما زادهم ذلك إلا ثباتا ويقينا وإيمانا بوعد الله ونصره. ﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران].
فهذا أيوب عليه السلام لما اشتد به المرض دعا الله تعالى فقال: ﴿ رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ﴾ وقال: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص ] “﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾استجاب الله دعاءه، لكن أمره باتخاذ الأسباب حتى وهو في حالة ضعف ومرض، وهو القادر سبحانه على أن يَشفيه ولو بدون اتخاذه لأيّ سبب، ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ لكنه لا يريد من عباده أن يتربوا على الخمول والكسل والتواكل وترك العمل، فقال تعالى: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾. وهل ضربة الصحيح للأرض منبعة للماء؟ لا، فكيف بمن هو مريض كأيوب عليه السلام؟، ولكن الله يريد أن يعلمنا أنه لابد من اتخاذ السبب ولو كان ضعيفاً، فالأمر أمره، والكون كونه، ولكن لابد من فعل الأسباب، مع حسن اعتماد القلب على الله عز وجل
وهذه مريم عليها السلام، لما كانت في حالة مخاض عند ولادتها لعيسى عليه السلام، وهي في حالة وهَن وضعف، واحتاجت إلى طعام، جاءها الأمر باتخاذ السبب، ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تساقطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾.هكذا يعلمنا القرآن أن التوكل الحقيقي يقتضي منا أن نأخذ بالأسباب،
لقي عمر بن الخطاب ناسًا من أهل اليمن، فقال من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. قال: بل أنتم المتأكلون إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” ومن المشهور عنه: أنه رأى جماعة يقعدون في المسجد بعد صلاة الجمعة، فأنكر عليهم، وقال: لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً! إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض. أما قرأتم قول الله تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)هدانا الله لحسن التوكل عليه ورزقنا ثمرته