كتب _ اشرف المهندس…
سلسة بعنوان (أخلاق الإسلام وحاجة المجتمع إلي تطبيقها) يحاضرنا فيها الدكتور اسماعيل أحمد مرشدى من علماء وزارة الأوقاف وإمام مسجد الفحام بادارة الجمرك مديرية أوقاف الإسكندرية
مجتمعنا بحاجة ماسة إلي الأخلاق وموضوع اليوم ضمن سلسلة تربوية أخلاقيه ننشرها تباعا نتناول فيها الأخلاق من منظور الدين
يحاورنا فيها رجال الدين حملة مشاعل الدعوة الى الله بمفهوم الدين الصحيح
النابع من المنهج الأزهري الوسطى
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلَّم وبارك على خاتم المُرسَلين سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين
الاعتذارُ خُلقٌ نبيل، وبرهانُ صدقٍ للقلوب الحيَّة، وسجيَّة محمودةٌ لا يتمتَّع بها إلا مَن كان ذا فطرةٍ سويَّة لم تُفسِدْها التَّقاليد الباليَة، والعادات الاستعمارية المُتعجرفة، بحيث يأنَفُ المُتكبِّرون وتلامذتُهم من الاعتذار عن أخطائهم التي يرتكِبونها في حقِّ غيرهم من الناس؛ اعتقادًا منهم أن ذلك سيجعلُهم صِغارًا في أعينِ مَن يُبجِّلونهم ويَذُوبون في تقديرِهم وهناك مَن لا يقبَلُ الاعتذارَ من إخوانه، ولا يرفَعُ به رأسًا، ولا يُقِيم له وزنًا، وكأنه كان ينتظِرُ بفارغِ
لؤمِه خطأَ أخيه في حقه؛ لتكونَ النقطةَ التي تفيض كأس العداوة في قلبِه المريض
تُخطِئ المرأةُ في حقِّ زوجها فلا تعتذر، ولا تُحدِّث نفسَها بذلك، وقد تكون لها أمٌّ شرسةُ الأخلاق، تُحرِّضها على ذلك، بدعوى أن الاعتذار قد يدفع الزوجَ للعُجبِ بنفسه، والنظر في عِطْفَيه زهوًا وافتخارًا، وكذلك الزوج لا يعتذر لزوجته إن أساء إليها، ظانًّا أنه أكبر من أن يعتذر لها، ويطلب منها الصفح والعفو.
الكبارُ يفهَمون الاعتذار فهمًا راقيًا، فلا ضَيْر من الاعتذار للزوجة إذا أخطؤوا في حقِّها، ولا مانعَ من الاعتذار لمرؤوسيهم إذا قصَّروا في أداء الواجبات المَنُوطة بهم، ولا ينقص من قدرِهم إذا اعتَذَروا، ولو كانوا في مراكزَ قياديَّةٍ.
وعلى العكس تمامًا من صِغار النفوس، والعامَّة من الناس الذين دأبوا على التهرُّب من الاعتذار عن أخطائهم التي ارتكبوها؛ فالزوجُ تأخُذُه العزَّة بالإثم من الاعتذار لزوجتِه،خوفًا
من أن ينقصَ ذلك من رجولتِه، والمدير لا يعتَذِرُ لموظَّفيه، خشيةَ أن يعتبروه ذا شخصيةٍ ضعيفة، والمدرِّس لا يعتذر لتلاميذه إذا أخطأ ، خوفًا من الاتِّصاف بعدم التمكُّن من مادته.
لقد اقتصر الاعتذارُ بين العامَّة على الأشياء العابرة الخفيفة؛ مثل الاصطدام الخفيف أثناء المشي، أما في المواقف الجادَّة والحقيقية، التي تحتاجُ الاعتذارَ حتى تستمرَّ عجلة الحياة، ويستقر التعامل بين الأقران، فنرى التجاهلَ وعدم المبالاة، والواقع يُؤكِّد ما نقول
فما المانعُ من تقديمِ الاعتذار على خطأٍ إن صدرَ منا، وما الضَّيْرُ في طلب الصَّفْح من إنسانٍ إن أسأنا إليه، فهل نحنُ أفضلُ من الأنبياء والمرسلين الذين كانوا يُسارِعون في الخيرات بقلوبٍ مِلْؤها الإيمان واليقين، ثم إذا أخطؤوا أخطاءً غير متعمَّدة رأيتَهم يُسابِقون في طلب الصَّفح والعفو من ربِّهم، الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصدور، لا يُبرِّرون أخطاءَهم، ولا يُجادِلون فيها كما يفعل الذين لا يعلَمون، فهذا أبونا آدم يأكل من الشجرةِ المحرَّمة، فيشعُرُ بحرجٍ شديد هو وزوجُه أمام ربِّه، وهو يعاتبه على مخالفته لأمره، فيطلبان العفو والغفران، معتذريَنِ ومُقدِّمينِ بين يدَي اعتذارِهما عباراتِ الذل والاستكانة والخنوع، التي إن دلَّت على شيء، فإنها تدلُّ على كمال العبودية وتمامها، ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
كليمُ الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، يقتلُ رجلاً غير عامد، فيكاد يخترقُه الحزن والهمُّ، وتضيق به الدنيا بما رَحُبَت، وهو الفتى المُدلَّل في قصر
فرعون، فلا يجد أدنى حرجٍ في طلب العفو والصَّفح من ربِّه الكريم، قائلاً: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16].
الاعتذار لغة:
الاعتذار مصدر اعتذر وهو مأخوذ من مادّة (ع ذ ر) الّتي تدلّ على معان كثيرة غير منقادة ومنها:العذر وهو روم الإنسان إصلاح ما أنكر عليه بكلام.
يقال منه: عذرته أعذره عذرا والاسم:العذر (بالضم) والجمع: أعذار. ويقال: فلان قام قيام تعذير فيما استكفيته، إذا لم يبالغ وقصّر فيما اعتمد عليه فيه. وقد تضمّ الذّال بالإتباع فيقال «عذر» «1».
ويقال: اعتذرت منه فمعناه شكوته، وعذر الرّجل صار ذا عيب وفساد، ومثله أعذر، وأعذر فيه. أي بالغ في الأمر، ولهذا فإنّ معنى حديث «أعذر اللّه إلى من بلغ من العمر ستّين سنة» أي لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدّة ولم يعتذر. وأمّا عذّر الرّجل (بالتّضعيف) فمعناه أنّه اعتذر ولم يأت بشيء، ولم يثبت له عذر. وأعذر (بالألف) يعني ثبت له عذره( الصحاح (2/ 737- 740)، ولسان العرب (2854- 2856). والمصباح المنير (398- 399) والمقاييس (4/ 252)،)
وجاءت الآية في التّوبة بالقراءتين على كلا المعنيين وهي قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ (التوبة/ 90) فبالتّثقيل معناه أنّهم تكلّفوا العذر ولا عذر لهم، وبالتّخفيف: الّذين لهم عذر، وعلى هذا ورد الأثر عن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- رحم اللّه المعذّرين ولعن اللّه المعذّرين، وقال بعضهم: أصل العذر من العذرة وهي الشّيء النّجس، ومنه سمّيت القلفة العذرة، فقيل عذرت الصّبيّ إذا طهّرته وأزلت عذرته، وكذا عذرت فلانا: أزلت نجاسة ذنبه بالعفو كقولك غفرت له أي سترت ذنبه «2».
وقد سوّى بعض العلماء بين العذر والاعتذار في المعنى. فقال الرّاغب الأصفهانيّ: العذر تحرّي الإنسان ما يمحو به ذنوبه «4» وإلى مثل هذا ذهب الفيروزاباديّ في «البصائر» «5».
وقد فرّق الجرجانيّ بين الأمرين فذكر أنّ الاعتذار هو (تحرّي) محو أثر الذّنب (كما سبق)، وأنّ العذر ما يتعذّر على المعنّى (فعله) على موجب الشّرع إلّا بتحمّل ضرر زائد «6».
وورد فى كثير من آيات القرآن الكريم لفظة الاعتزار منها :-
– وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) «1»
2- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) «2»
3- وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) «3»
4-* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) «4»
5- قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) «5»
6- يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) «6»
7- بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
الأحاديث الواردة في (الاعتذار)
1-* (عن المغيرة بن شعبة- رضي اللّه عنه- قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسّيف غير مصفح «1» عنه فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال: «أتعجبون من غيرة سعد، فواللّه لأنا أغير منه، واللّه أغير منّي، من أجل غيرة اللّه حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من اللّه، ولا شخص أحبّ إليه العذر من اللّه، من أجل ذلك بعث اللّه المرسلين مبشّرين ومنذرين، ولا شخص أحبّ إليه المدحة من اللّه، من أجل ذلك وعد اللّه الجنّة»)* البخاري- الفتح 13 (7416)، ومسلم (1499) واللفظ له.
2-* (عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إيّاك وكلّ أمر يعتذر منه»)*
3-* (عن ابن عمر- رضي اللّه عنهما- أنّه قال: بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سريّة، فلمّا لقينا العدوّ انهزمنا في أوّل عادية، فقدمنا المدينة في نفر ليلا، فاختفينا، ثمّ قلنا: لوخرجنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واعتذرنا إليه، فخرجنا، فلمّا لقيناه قلنا: نحن الفرّارون يا رسول اللّه، قال: «بل أنتم العكّارون «5» وأنا فئتكم». قال أسود بن عامر: «وأنا فئة كلّ مسلم»)
4-* (عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «التّأنّي من اللّه، والعجلة من الشّيطان، وما أحد أكثر معاذير من اللّه، وما من شيء أحبّ إلى اللّه من الحمد»)
(قال الشّافعيّ- رحمه اللّه-:
يا لهف قلبي على مال أجود به … على المقلّين من أهل المروءات
إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني … ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات)* «4».
ودخل رجل على المنصور فقال له:
تكلّم بحجّتك. فقال الرّجل: لو كان لي ذنب تكلّمت بعذري وعفوك أحبّ إليّ من براءتي»)
وأتي الهادي برجل من الحبس فجعل يقرّره بذنوبه فقال الرّجل: اعتذاري ردّ عليك، وإقراري يوجب لي ذنبا، ولكنّي أقول:
إذا كنت ترجو في العقوبة راحة … فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
من فوائد (الاعتذار)
(1) الاعتذار يمحو الذّنوب.
(2) استجلاب المنافع من المعتذر إليه.
(3) الأصل ألّا يقدم الإنسان على ما يعتذر منه، فإن فعل فالاعتذار يصفّي القلوب.
(4) يرزق قابل الاعتذار مودّة اللّه فهو أكثر معاذير من كلّ أحد.
(5) يرزق المعتذر والمعتذر إليه التّواضع.
(6) المسلم الّذي يقبل العذر من أخيه يشجّعه على فعل الخير.
(7) الاعتذار يقي النّاس من الهلاك.
ويقول ابن القيم في كتابه الرائع: “مدارج السالكين ج 3 ص 384:
(فيا أيها القارئ لهُ، لك غُنْمه وعلى مؤلِّفه غُرْمه، لكَ ثمرتُه وعليه تَبِعتُه، فما وجدتَ فيه من صوابٍ وحقٍّ فاقبَلْه، ولا تلتَفِت إلى قائله، بل انظُرْ إلى ما قال، لا إلى مَن قال، وقد ذمَّ الله تعالى مَن يَرُدُّ الحقَّ إذا جاءَ به مَن يُبغِضُه، ويقبَلُه إذا قاله مَن يُحبُّه، فهذا خُلُق الأمَّة الغَضَبية، قال بعض الصحابة: “اقبَل الحقَّ ممَّن قاله، وإن كان بغيضًا، ورُدَّ الباطلَ على مَن قاله، وإن كانَ حبيبًا
وما وجدتَ فيه من خطأ،
وكيفَ يُعصَمُ من الخطأ مَن خُلِقَ ظلومًا جهولاً؟ ولكن مَن عُدَّت غلطاتُه أقربُ إلى الصواب ممَّن عُدَّت إصاباتُه.