المقهى الثقافي الذي لم يعد له وجود

-للأستاذ الدكتور حسن عبدالعال. كلية التربية جامعة طنطا

متابعة ..احمد عبد الحميد
فى بلدى طنطا وفى أكبر شوارعها ” شارع البحر ” والذى تغير اسمه بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ ليصبح ” شارع الجيش” يوجد مقهى عتيق حمل اسم ” مقهى ليمنوس ” يتعارف المثقفون فى بلدى على أن هذا المقهى كان يجتمع فيه أهل الفكر والثقافة فى طنطا ، وفى جنباته كانت تجرى المحاورات والمناقشات الثقافية بين المفكرين والأدباء ، وتعرض فيها أعمالهم الفكرية والأدبية ، وتخضع فيها قضايا العلم والأدب التى كان يمتلأ بها فضاء مصر الثقافى فى أوائل القرن العشرين للدرس والنقد والتحليل، وتحتدم بسببها المعارك الفكرية والأدبية ، وتسيل فيها أنهار من مداد تمتلأ به الصحافة الأدبية مثل ” الرسالة ” و” الكاتب ” و ” الزهور ” وغيرها مما أثرى الحياة الثقافية فى مصر ، وأصبح زادا ثقافيا يقتات عليه طلاب العلم ورواد الأدب وعشاق الثقافة .

ومقهى ليمونس فى بلدى طنطا ، واحدة عشرات المقاهى الثقافية التى عرفتها مدن مصر ، التى ضمت بين جنباتها مثقفين وأدباء ومفكرين وفنانين ، كتبوا وسجلوا أروع أعمالهم وهم يحتسون القهوة وتملأ صدورهم رائحة البن اليمنى العتيق ، لتضيف إلى أعمالهم نكهة الأصالة العربية .

كان من رواد هذا المقهى “ليمنوس ” أديب مصر العظيم مصطفى صادق الرافعي ، صاحب الكتاب الأشهر ” تحت راية القرآن ” الذى ضم بين دفتيه وقائع المعركة الأدبية التى دارت رحاها بينه وبين عميد الأدب العربى ، ورواد الأدب الحديث آنذاك ، أو ” بين الأصالة والمعاصرة ” ، وهى نموذج لما كان يجرى فى الحركة الثقافية بين الأدباء والمفكرين فى أوائل القرن العشرين وهى كثيرة وممتعة ورائعة ، ومنذ أيام كنت استمتع بقراءة كتاب ” أباطيل وأسمار ” للأديب المحقق محمود شاكر والمحكمة التى أقاهما ليحاكم فيها أدب وفكر الدكتور لويس عوض ، ووالله لا أستطيع أن أصف لك المتعة الذهنية الرائعة وأنا أقرأ عن موقف محمود العقاد وابراهيم المازنى ومد رسة الديوان ، ونقد شعر أمير الشعراء وحافظ إبراهيم ومن قبلهما محمود سامى البارودى .
كان بحر الثقافة والأدب يموج بتيارات ومدارس ومذاهب تجعل للحياة معنى .

أشار لى أحد المثقفين المعمرين من مواطنى بلدى طنطا إلى ركن من مقهى ليمنوس وقال هنا كان يجلس الأديب مصطفى صادق الرافعي ، الذى كان يعمل موظفا فى محكمة طنطا ، وعلى منضدة فى هذا الركن ، ومع فناجين قهوته كتب كتابه ” تحت راية القرآن ” وكتب أجزاء كتابه الرائع ” وحى القلم” .
لقد كان مقهى ليمنوس وجها من وجوه البلد الثقافية ، يحمل عبقها الحميمية التى كانت بينها وبين مصطفى صادق الرافعي والمثقفين فى زمنه ، وكان فضاؤها مكرسا فى الماضى للتثاقف ، كانت مكانا للعزلة والتواصل فى أن واحد ، صحيح تغير حالها الان ، وفقدت ألقها الأدبى والثقافى وأصبحت مقهى عاديا كمئات المقاهى فى بلدى ولم تعد مصدرا لإشعال مصابيح الفكر التى أنارت مسيرة الثقافة والتنوير .

لكننى كلما مررت على مقهى ليمنوس فى بلدى طنطا ، لاأدرى لماذا أتذكر دور المقهى الثقافى فى صنع العظماء ، ومن أولهم مصطفى صادق الرافعي ، وتقفز الى ذهنى مقولة الأديب الأيرلندي ” جورج مور ” :
” اننى لم ألتحق بجامعة أكسفورد ولا بجامعة كامبردج ، ولكننى التحقت بمقهى أثينا الجديدة ، فمن أراد أن يعرف شيئا عن حياتى ، ينبغى أن يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه ، لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التى تقرأ عنها فى الصحف ” .
رحم الله زمانا كان يجتمع فيه فى المقهى الفكر والأدب والفن والقهوة

Related posts

Leave a Comment