متابعة.. عبده البربري
مدرسة الجيزويت أو مدرسة الاباء اليسوعيين تحتفل هذه الأيام بمرور مائة وأربعين عاما على إنشائها ، علمت وبنت فى تاريخها ألاف البشر ، وأجيالا متعاقبة من أبناء مصر ، قام على هذه المدرسة الآباء اليسوعيون الذين أفنوا أعمارهم فى أداء رسالة تربوية عظيمة لمصر وتخرج فيها كثير من المشاهير الذين أثروا الحياة المصرية فى جوانبها المختلفة .وتجربة الجيزويت تجربة تعليمية تستأهل أن نقف عندها بعض الوقت لنتأمل كيف يثمر العمل الجاد فى مجال التربية وكيف يجنى المجتمع ثمار العملية التربوية الجادة لا الشكلية النظرية خيرا وبركة ، لقد عكف الآباء اليسوعيين فى تجربة الجيزويت وركزوا جهدهم كلة لتحقيق غايات تربوية كبيرة وعظيمة ، ذروتها بناء انسان سوى مكتمل النمو ، يملك من القدرات والمهارات والخبرات والمعارف والعلوم ، ما يمكنه من إتمام عمل متقن يعود بالنفع عليه وعلى أمته فى المجال الذى يعمل فيه ، ويؤدى إلى تطوير المجتمع وتغييره إلى الأفضل دائما .أهمية التجربة التعليمية للاباء اليسوعيين فى مصر لم تعتمد على توفير مبنى مدرسى ضخم فاره ، ولا على فصول دراسية مجهزة ببذخ ، ولا على ملاعب وقاعات أنفق عليها الكثير ، كما نشاهده اليوم فى المدارس الدولية التى غزت مصر ، وأحدثت ما أحدثت فى الهوية المصرية العربية ، لقد اتسمت مدارس الجيزويت بالبساطة دون إخلال بالامكانات المطلوبة للعملية التعليمية ، مع صرف كل الجهد والطاقات إلى جوهر عملية التعليم وتحقيق أسمى غاياته .ويحدثنا الأستاذ زياد بهاء الدين نائب رئيس وزراء ووزير التعاون الدولى الأسبق ، وهو من خريجى مدارس الجيزويت عن أهداف وآليات العملية التعليمية فى مدارس الآباء اليسوعيين ، وكيف يمضى التعليم فيها ، منذ كان تلميذا بها وحتى يومنا هذا فيقول : استهدفت المدرسة تمكين الطالب من الخبرات والمهارات المطلوبة من جهة ، وتسليحه من جهة أخرى بمجموعة من القيم والمبادئ والأسس الفكرية والأخلاقية التى تصنع منه مواطنا صالحا وعضوا مفيدا وتافعا لمجتمعه ووطنه .واستهدفت العملية التربوية أهدافا رئيسية ثلاثة ونجحت فى تحقيقها ، واكتساب أبنائها ما تبغيه من قيم سامية : ١ __ العدالة الاجتماعية ليس بمعنى العطف على الفقراء ، بل بإدراك أن المواطنين جميعا لهم حقوق فى التعليم والصحة والسكن والعمل ، وأن الحصول عليها يجب أن يكون فى إطار يحفظ لهم كرامتهم ، وهذه رسالة الآباء اليسوعيين فى العالم كله لا فى مصر وحدها .٢ __ المسؤلية ورفض التمييز ، وخاصة التمييز على أساس دينى أو طائفى ، ولا أكاد أبالغ إذا قلت إن مدارس الجيزويت كانت ولاتزال نموذجا يحتذى فى التعايش بين أبناء الديانات والطوائف المختلفة وفى رفض كل أشكال التمييز .٣ __ الوطنية والانتماء لمصر وهى مشاعر نجحت المدرسة أن تغرسها فى وجدان التلاميذ عن طريق بناء الاعتزاز لديهم بالحضارة المصرية والفن والأدب والثقافة ، وعن طريق تشجيعهم على التعرف على بلدهم وأهله والالتحام بهم .ومع ذلك لم تكن تجربة الجيزويت سهلة ، بل واجهت ظروفا صعبة ، خلال قرن ونصف قرن الماضيين ، أحيانا بسبب توجس الدولة من أن يكون نشاطها تبشيريا ، وأحيانا بسبب وجود مدرسين أجانب ، وأحيانا بسبب الرغبة والسيطرة ، وأحيانا بسبب رغبة المدرسة فى أحداث تطوير لمواكبة تطورات العصر ، ولكن صمدت المدرسة لأن هدفها ظل خدمة البلد وتعليم الأولاد فقط دون نظر إلى أرباح ، ولأن وراءها الآباء اليسوعيين الذين وهبوا أنفسهم للتعليم ومكافحة الفقر والجهل والظلم الاجتماعى .واليوم ومصر تواجه تحديات خطيرة فى مجال التعليم فإن النظرة السائدة لا تزال تنحاز إلى الاستعانة بتقنيات حديثة على نحو ما يجرى فى تجربة التابلت الأخيرة ، بغض النظر عما تعرضت له من تعثر ، وهى وإن كان البعض يراها ضرورية ، فهى ليست كافية ويضيع فى غمرة الانشغال بها جوهر العملية التعليمية .ألا تستحق تجربة مدارس الآباء اليسوعيين ، ومدارس أخرى عديدة ورائدة الدراسة والدعم والمساندة كى تستمر فى أداء رسالتها .