للأستاذ الدكتور محمد ابراهيم طه
.كلية التربية جامعة طنطا متابعة عبده البربري
تبدأ القصة عند ولادتي ، فكنت الابن الوحيد مع ثلاث بنات في أسرة عاديةفلم يكن لدينا من الرفاهية الكثير….وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا ًمن الأرز لنأكله ويسد جوعنا:كانت أمي تعطيني نصيبها .. وبينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلي طبقي كانت تقول : يا ولدي تناول هذا الأرز ، فأنا لست جائعة ..وكانت هذه كذبتها الأولى..
وعندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شؤون المنزل وتذهب أحيانا لشراء السمك من محل صغير بجوار منزلنا ، وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قدتساعدني على أن أتغذى وأنمو ، وفي مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تحضر سمكتين ، أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمامي فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا ، وكانت أمي تتناول ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك ، فاهتز قلبي لذلك ،وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها ، فأعادتها أمامي فورا وقالت :يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا، ألا تعرف أني لا أحب السمك ..وكانت هذه كذبتها الثانية..
وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة ، وكنت اذهب لدرس خاص، وفي ليلة شتاء ممطرة ، تأخرت في الدرس ، فخرجت ووجدتها بانتظاري ، فناديتها : أمي ، هيا نعودإلى المنزل فالوقت متأخر والبرد شديد ،فابتسمت أمي وقالت لي : يا ولدي.. أنا لست مرهقة ..وكانت هذه كذبتها الثالثة..
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة ، أصرّت أمي على الذهاب معي ،ودخلت أنا ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة ،وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرجت لها فاحتضنتني بقوة ودفءوبشرتني بالتوفيق من الله تعالى ، ووجدت معها كوبا فيه مشروب كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي ، فشربته من شدة العطش حتى ارتويت ،بالرغم من أن احتضان أمي لي : كان أكثر بردا وسلاما ، وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه ، فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها :اشربي يا أمي ، فردت : يا ولدي اشرب أنت ، أنا لست عطشانة ..وكانت هذه كذبتها الرابعة..
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة ، وأصبحت مسؤولية البيت تقع عليها وحدها ، ويجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات ،فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا ولما طلبت منها أن اساعدها قالت :أنا لست بحاجة إلى شئ ..وكانت هذه كذبتها الخامسة…
وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة ، حصلت على وظيفةإلى حد ما جيدة في التدريس ، واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمي وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل ، خصصت لها جزءا من راتبي ، فرفضت أن تأخذه قائلة :يا ولدي احتفظ بمالك ، إن معي من المال ما يكفيني ..وكانت هذه كذبتها السادسة…
ثم عملت في الجامعة وواصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجستير ،وبالفعل نجحت وارتفع راتبي ، وسافرت الي البحرين ، فشعرت بسعادة بالغة ،وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة ، وبعدما سافرت وهيأت الظروف ،اتصلت بأمي أدعوها لكي تأتي للإقامة معي ، ولكنها لم تحب أن تضايقني وقالت : يا ولدي .. أنا لست معتادة على المعيشة المترفة …وكانت هذه كذبتها السابعة…
كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة ، ومرضت ،وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها ، ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد لاني كنت وقتها في المملكة العربية السعودية، تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا ، فوجدتها وقد اشتد عليها المرض ، عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي ولكن قلبي كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة ، ليست أمي التي أعرفها ، انهمرت الدموع من عيني ولكن أمي حاولت أن تواسيني فقالت : لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم …وكانت هذه كذبتها الثامنة…
إلى كل من ينعم بوجود أمه في حياته :حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها …
وإلى كل من فقد أمه الحبيبة :تذكر دائما كم تعبت من أجلك فلا تنساها من دعائك رحمك الله.