[ad id=”66258″]
فى مصر القديمة، وقبل ظهور علوم الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، حدد القادة المصريون أمن وطنهم بأنه يمتد من قرن الأرض «القرن الأفريقي» إلى منابع المياه المعكوسة أى منابع دجلة والفرات اللذين يجريان من الشمال إلى الجنوب عكس جريان النيل من الجنوب للشمال، وكانت علاقات مصر بقارتها الأفريقية ذات أبعاد متعددة اقتصادية وأمنية كما أشرت، وفى العصر الحديث توغلت مصر جنوبًا باتجاه منابع النيل والقرن الأفريقى، وأصبحت تسيطر بحق الغزو أو الفتح على مناطق واسعة معلومة لمن يهتمون بفترة الخديو إسماعيل، وبقى حق الفتح هو الأساس الذى ضمت به مصر تلك المناطق. ولم يعد ممكنا بعد ثورة يوليو 1952 وما أعلنته من مبادئ وسياسات تؤكد إيمان مصر بحق الشعوب فى تقرير مصيرها وانتهاء أى شرعية تعتمد على الاحتلال أو الغزو أو الفتح؛ أن يبقى السودان تابعا لمصر.. وهنا أستأذن فى جملة اعتراضية، هى أن العباقرة الذين يطالبون بتغيير العلم الوطنى المصرى الحالى والعودة لعلم الهلال والثلاث نجوم يتناسون عمدًا، أو بالأحرى يجهلون مؤكدا، أن العلم الأخضر ذا الهلال الأبيض والنجوم الثلاث البيضاء خماسية الأطراف كانت ألوانه تنصرف إلى أن الأخضر يرمز للوادى والدلتا والهلال للإسلام والنجوم الثلاث إلى مصر والنوبة والسودان ومنه دارفور وكردفان! ومن الوارد أن يحتج إخوتنا فى السودان- والعملية لا ينقصها تأجيج أو تلكيك– على عودة ما يرمز إلى تبعية السودان لمصر! وفى هذا تراث طويل من السلبيات، أشك كثيرًا أن أولئك العباقرة يعرفونه أيضًا.
ومع تطور العلاقة، وانطلاق حركات التحرر الوطنى الأفريقية، وسعى الشعوب للحرية والاستقلال، كانت المحروسة بقيادة جمال عبد الناصر هى السند والموئل والداعم لحركات التحرر الأفريقية، وبات الدور المصرى فى القارة دورًا قياديًا رائدًا بقيت آثاره وفاعليته إلى الآن، رغم السنين الكالحة الكئيبة التى تخلت فيها مصر عن دورها، وتركت الميدان خاليا للنفوذ الفرانكفونى والأمريكى والصهيونى.. وما زال فى العديد من عواصم ومدن دول القارة شوارع وميادين تحمل اسم جمال عبدالناصر، ومازال هناك قادة أفارقة يذكرون الرجل ودوره، ولا أنسى أبدًا أن القائد الفذ نيلسون مانديللا عندما زار مصر بعد انتصار شعبه فى نضاله ضد الاستعمار الاستيطانى الأوروبى، سئل عن أول أمر يحب أن يفعله فى مصر، فأجاب من فوره أنه سيزور ضريح جمال عبد الناصر ويلتقى محمد فائق.. وهناك وقف يكلم الثاوى فى تراب مصر، ويتأسف له أن الزيارة جاءت متأخرة عن موعدها عشرين عاما! وما أستهدفه من هذه الإشارات هو أن لمصر رصيدا ذهبيا كبيرا فى قارتها، وفى آسيا وأمريكا اللاتينية، تم إيداعه فى الحقبة الناصرية، ولا يمكن التفريط فيه ولا التقليل من شأن من راكموه بجهود جبارة يعرفها أبناء أفريقيا، وكثير من دول آسيا وأمريكا اللاتينية.. وهو رصيد يتعمد المأفونون الغطرسة عليه وتجاهله والتقليل من شأنه عندما يركزون وبمنهج حسابات البقالة على قراءتهم للتاريخ.
[ad id=”1177″]
إن تسلم مصر لرئاسة الاتحاد الأفريقى لا ينطلق من فراغ ولا يسير نحو مجهول، فهى كما أسلفت حلقة متممة لما بدأ منذ مطلع الخمسينيات، وهى كما هو واضح من التصريحات الصادرة عن الرئاسة فى مصر ستكون منصة انطلاق أفريقى شامل للتكامل ولتعظيم الموارد ولحل المشكلات المزمنة وغيرها من الأهداف، وللحق فإن الرئيس السيسى وفريق العمل الذى يعاونه فى السياسة الخارجية نجح بامتياز حتى الآن فى ترميم الصدوع التى نتجت عن فترة الإهمال الطويلة لأفريقيا فى عهد مبارك، وفى مد الجسور السياسية والاقتصادية والثقافية مع دول القارة، وأضحت القاهرة ثانية مقصدًا مهمًا لقادة الدول الأفريقية، وهو نجاح تتضافر معه فى ضفيرة واحدة شبكة العلاقات القوية مع دول الشرق، كالهند والصين واليابان وفيتنام وغيرها، ومع دول أوروبا وأمريكا الجنوبية.
ومن البديهى أن النجاح السياسى لا ينفصل عن الأبعاد الاقتصادية والثقافية، ونعرف أن هناك شخصيات مصرية خارج النطاق الحكومى، تلعب دورًا مهمًا فى تأسيس وتنمية علاقات اقتصادية مصرية- أفريقية، وبقى أن يتم التركيز الآن ومستقبلًا على البعدين الثقافى والإعلامى إذا جاز الفصل بين الإعلام والثقافة.. ولا أعلم إذا كانت الإذاعات الموجهة باللغات واللهجات الأفريقية، التى كانت تبث من القاهرة، حتى أواخر الستينيات مستمرة أم لا، وإذا كانت مستمرة فهل تم تطوير مضمون إرسالها بما يتناسب مع التغيير الذى حدث فى دول القارة بعد التحرر ونيل الاستقلال، أم لا، أم أنها أوقفت تمامًا؟!
لقد ظل إخوتنا فى السودان- على سبيل المثال- يشتكون وأحيانًا يسخرون من جهل النخب المصرية بالتكوين السودانى، حضاريًا وثقافيًا وتاريخيًا وجغرافيًا.. ناهيك عن الميراث الثقيل فى هذا المضمار.. ميراث النخاسة وميراث ربط لون البشرة السوداء بمهن وأعمال معينة، معظمها خدمى متدنٍ، بل إن كثيرين من أهل الكتابة يكتبون عن السودان بصيغة المؤنث، وكذلك اليمن ولبنان والعراق، يتعاملون معها مؤنثة، ما يثير سخرية شعوب تلك الدول.
غاية القول إن دور مصر فى قارتها ليس عملية آلية ميكانيكية، ولكنه حركة يجب أن تكون مستمرة وذات مضمون متطور، وإلا فإنه دور ضامر وراكد، ولأن مصر تولت رئاسة الاتحاد فالعبء أضحى مضاعفًا؛ لنواكب حركة الرئيس على كل المستويات
[ad id=”87287″]