بقلم .. د . عدنان الدليمي
د/احلام الحسن
تلك الفتاة لا تشبه إلا نفسها وشمس الضحى ، فوجهها الأبيض الدائري يمتلئ نضارة ، وعيناها السوداوان كوكبان صغيران ، وملامحها العشرينية الحادة توحي لي أنها الوحيدة في ذلك الحي التي تشرق وتغيب كنجمة لذا فهي الوحيدة التي اسـتأثرت باهتمامي وزادت من قلقي ودقات قلبي ، كلما مررت على باب دارها الواقعة في منتصف الشارع الذي أسلكه على دراجتي الهوائية ذهاباً وعودة لمدرستي فأُحْسَد من أقراني على هذه النعمة . إنهم كانوا يتأبطون أقدامهم وخيباتهم وكتبهم مشياً متعباً . كنت قد تركت كل شيء من أجل عينيها .. تركت كل شيء يعكر ذكراها في مخيلتي وأقف مرعوباً كلما مرَّ اسمها وترتجف جوارحي كلما شاهدتها ، إذن أصبحت هي ملاذي الآمن الذي تستقر إليه عواطفي ولا أجد مهرباً إلاّ أن أسّطر اسمها في خلجاتي … ومثلما زرعت تلك الصبية في نفسي الطرية بذور العشق المزهوة بشبابها المتفتح ، علمتني أن أبدأ خطواتي الأولى في صنع الأعذار والتكلف بتعطل تلك الدراجة دائماً بالقرب من شباكها المفتوح على النصف فاستمتع بوهج عينيها الباسمتين وأحسُّ بنشوةٍ غريبةٍ ، ولأول مرة وجدت عند تلك الفتاة مأوى لعواطفي الصغيرة الخجولة ، كنت أنطلق صباحاً برغبةٍ جياشة لعبور ذلك الشارع وأنا أحملُ وِداً غريباً لسالكيه وأنتظر بفارغ الصبر انتهاء حصص الدروس المدرسية لأُسابق أفكاري وخطواتي وهي تدور على تلك الدراجة ، وعندما دخل بيننا السلام كان يعتريني شيء من الخوف وتشخص أمام عيني العواقب من أجل أن يشعر أحدٌ من أهلها ويأتي بي إلى دارنا فيسّلمني مقبوضاً عليَّ لأبي الذي لا يرحمني إلا بصفعات العقوبةِ القاسيةِ لولدٍ لم يحسن تربيته بعد ، ومع مرور الأيام ازدادت شجاعتي الغرامية حتى وقفت قبالة تلك الوردة الزاهية أبث لواعجي فتضحك ملء روحها الشفافة بكلماتي من دون أن أجد في قسمات وجهها الجميل رفضاً ولا شفقة ، لقد أدركت أن أول من فتح أبواب قلبي هي ، وبدأت أنسام وجهها تغمرني حتى لا أجد وقتاً أجمل من لقاءها ، ولا مكاناً أحلى من هذا المكان الذي يحيط بها إحاطةِ الأفق الممتد ما بين دارنا ومملكتي الأثيرة يشحن خطواتي بالحيرة والترقب ويزرع في أعماقي الفرح ساعات وأيام وشهور تمر وقلبي المشوب بطيف رائع شفيف ، يقرأ ما وراء
خطواتي من قلق وأفكار بسيطة لكنها متأججة ، هل سأذهب أنا للمستقبل لأحصد ثمراته وأعود منتشياً أو خائباً ، أم أترك زمام الأمور كما هي وأعيش يومي في ألم جميل منتظراً أن تأتي الأيام بحلاوتها ودهشتها ، سأزعل وأرضى مع نفسي وأقبل بكل شيء يضيع مني ، يتبدد ، وأقبل من زمني تعباً جديداً إلاّ أمرٌ واحدٌ لا أداهن عليه ولا أراهن ، أن أفقد طيف من أحببت عنوةً أو طوعاً ، ومادام هو معي ، فعندي من القوة لأن أتسلق جبلاً أو أنتظر أعواماً وسط الزحام دون شكوى …
سألتها ماذا تتوقعين من نهايةٍ لنا ؟
أجابت … أحلام ونغم تبعث في أيامي الانتشاء وأرجو أن يتوج هذا بنهاية سعيدة
قلت … ما كل ما يتمناه المرء يدركه
قالت … مرت سنوات ونحن ننسج رداء الحب تحت خيمة الأماني الجميلة
قلت … الزمن كفيل بأن يحققها أو يطرحها مِنّةً أو أسفاً
قالت … إذا انفرط عقد محبتنا لأي سبب كان !! سأقتات بعدك على دهشة زيف الحياة .
وجاءت السنوات محملة بالأوجاع والحروب والأسى وألقت بضلالها القاتمة على مسرح الفراق والبعاد ، انشغلت النفس بالنفس واكترث الزمن بالزمن ، في زمن الموت والخوف يصبح الحب ترفاً ، كنت ما بين فجيعة وفجيعة ، أبحث عن مملكتي بين الوجوه ولم أعثر يوماً على من يشبهها ، كانت هي الأجمل ، ولم تستطع امرأة أن تسبر أغوار نفسي كما تفعل هي فبقيت عواطفي راكدة مصلوبة كالتمثال هي وحدها القادرة أن تمسح عن ذاكرتي عذابات السنين وتذكرني بأيام الشباب والوداعة والجمال وما حصل بعد عمر من السنوات والنسيان وما حصل في تلك الأمسية الرحيبة منعش للآمال ، إذ كان كل شيء يبدو هادئاً في حفل بهيج لم تبدأ طقوسه بعد … كل شيء كان يبدو طبيعياً ، المدعوون رجالاً ونساء بأعمار مختلفة ، والزجاج الصقيل يعكس حركتهم ، الموائد صُفّت بانتظام ، وثمة موسيقى هادئة تتردد في المكان ، ولفحات الهواء الحار خارج القاعة – إذ الوقت صيفاً – بدأت تقل سخونته ، وقد نزلت الشمس بقرصها الرائق نحو المغيب في الربع الأخير من النهار ، كنت أنتقل بنظري على البعد من وجهٍ لآخر ، أتفحص ملامح الداخلين من دون أن أجد أحداً يكترث بوجودي ، ومع تزاحم خفيف في باب القاعة .. حضرت امرأة في عقدها الخمسين لا تُعْدَم فيه الأناقة والعنفوان ولم
تكن امرأة بل كوكبٌ شتت أفكاري ، وكأنني أعرف هذه المرأة جيداً بل هي قريبةٌ إلى نفسي أكاد أسابق تصادم أفكاري لأجد ضالتي في معرفة هذه المرأة المهمة ، إذاً هذا الحفل سيكون من حصتي ، وأُقيم على شرفي ، عفواً أني تخيلت ذلك في لحظات بيني وبين نفسي ، مصطدماً برد الفعل ، لا … أبداً … أنا واحد من المدعوين لهذا الحفل ليس إلاّ .. والمناسبة زواج ابن صديقي الوحيد لوالديه .. وعلى الفور زادت رغبتي بشيء من الوجل فاتجهت إليها بخطوات وئيدة ..
قلت لها … ألست … السيدة …
قالت نعم أنا …
ولم تترك لي فرصة لتعريف نفسي
قالت مبادرة .. وأنت فلان ..
وفجأة راودتني حالة التلعثم التي كانت سائدة على لساني عندما كنت أقف معها ودوداً قبل ستة وثلاثين عاماً … وقد رأيتها تتفحّص بدقة طغيان الشيب في لحيتي ومفرقي
قلت … أنقاض رجل …
قالت … الذهب لا يصدأ
قلت منتشياً
إذن اليوم نبدأ