بقلم احمد الشامي
وذلك لأن الرقية الشرعية في لغة العرب في المعجم الوسيط العوذة التي يرقى بها المريض ونحوه والجمع رُقى .والعوذة لغة التميمة أو الرقية يرقى بها الإنسان من فزع أو جنون والجمع عوذ . والتميمة لغة ما يعلق في العنق لدفع العين والجمع تمائم وتميم . وورد في تفسير الشعراوي لقوله تعالى ( ونُنزِلُ من القرآنِ ما هو شفاء ورحمةُ للمؤمنينَ ) سورة الإسراء آية 82 . أن الآية تعطينا نموذجين لتلقي القرآن إن تلقاه المؤمن كان له شفاء ورحمة وإن تلقاه الظالم كان عليه خَسَار والقرآن حدد الظالمين ليبين أن ظلمهم هو عدم إنتفاعهم بالقرآن لأن القرآن خير في ذاته وليس خساراً . وقد سبق أن أوضحنا أن الفعل قد يكون واحداً لكن يختلف القابل للفعل ويختلف الأثر من شخص لآخر كما أن الماء الزلال (الماء العذب الصافي البارد ) يشربه الصحيح فيجد له لذة وحلاوة ويشربه العليل فيجده مراً مائعاً فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف . كذلك أكل الدسم فإن أكله الصحيح نفعه وزاد في قوته ونشاطه وإن أكله السقيم زاده سقما وجر عليه علة فوق علته . وقد سبق أن أوضحنا في قصة إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه أنه لما تلقى القرآن بروح الكفر والعناد كرهه ونفر منه ولما تلقاه بروح العطف والرقة واللين على أخته التي شج وجهها أعجبه فآمن . إذن سلامة الطبع أو قساوته لها أثر في تلقي القرآن والإنفعال به وما أشبه هذه المسألة بمسألة التفاؤل والتشاؤم فلو عندك كوب ماء قد ملئ نصفه فالمتفائل يلفت نظره النصف المملؤ في حين أن المتشائم يلفت نظره النصف الفارغ فالأول يقول نصف الكوب ممتلئ والآخر يقول نصف الكوب فارغ وكلاهما صادق لكن طبعهما مختلف وقد عالج القرآن مسألة التلقي هذه في قوله تعالى ( وإذا ما أُنزِلت سورةُ فمنهم من يقولُ أيكم زادتُهُ هذه إيماناً فأما الذينَ آمنوا فزادتهُم إيماناً وهم يستبشرون. وأما الذينَ في قلوبهم مرضُ فزادتهم رجساً إلى رجسهِم وماتوا وهم كافرونَ ) سورة التوبة ١٢٤ ،١٢٥. فالآية واحده لكن الطبع المستقبل مختلف فالمؤمن يستقبلها بملكات سليمة فيزداد بها إيمانا والثاني يستقبلها بملكات فاسدة فيزداد بها كفراً . إذن المشكلة في تلقي الحقائق وإستقبالها أن تكون ملكات التلقي فاسدة .
ومن هنا نقول إذا نظرت إلى الحق فإياك أن تنظره وفي جوفك باطل تحرص عليه لابد أن تخرج ما عندك من الباطل أولا ثم قارن وفاضل بين الأمور . وكذلك جاءت هذه المسألة في قول الله تعالى ( ومنهم من يستمعُ إليكَ حتى إذا خَرجوا من عندكَ قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفًا أولئك الذين طبع اللهُ على قلوبهم واتبَعوا أهواءهُم والذين اهتدوا زادتهُم هدًى وآتاهم تقواهُم ) سورة محمد آية ١٦،١٧ . ( ماذا قال آنفاً …) دليل على عدم إهتمامهم بالقرآن وأنه شيئ لا يؤبه له . وكذلك في قوله تعالى ( ولو جعلناهُ قرآنًا أعجمياً لقالوا لولا فُصلت آياته أأعجميُ وعربيُ قل هو للذين آمنوا هدًى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهِم وقرُ وهو عليهم عمًى…) سورة فصلت آية 44 ومثال لسلامة التلقي من حياتنا المعاصرة إرسال التلفاز مثلا فقد تستقبله أنت في بيتك فتجده واضحا في حلقة من الحلقات أو برنامج من البرامج فتتمتع بما شاهدت ثم تقابل صديقا فيشكو لك سوء الإرسال وعدم وضوح الصورة فيؤكد لك سلامة الإرسال إلا أن العيب في جهاز الإستقبال عندك فعليك أولاً أن تضبط جهاز الإستقبال عندك لتستقبل آيات الله الإستقبال الصحيح . إذن قول الحق تبارك وتعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) متوقف على سلامة الطبع وسلامة الإستقبال والفهم عن الله تعالى .
والشفاء أن تعالج داءً موجودا ليبرأ منه والرحمة أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرة أخرى فالرحمة وقاية .
والشفاء علاج. لكن هل شفاء القرآن شفاء معنوي لأمراض القلوب وعلل النفوس فيخلص المسلم من القلق والحيرة والغيرة ويجتث ما في نفسه من الغل والحقد والحسد إلى غير ذلك من أمراض معنوية أم هو شفاء للماديات ولأمراض البدن أيضا ؟ والرأي الراجح بل المؤكد الذي لا شك فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه الكلمة فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات بدليل ماروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه خرج على رأس سرية وقد مروا بقوم وطلبوا منهم الطعام فأبوا إطعامهم وحدث أن لدغ كبير القوم وإحتاجوا إلى من يداويه فطلبوا من يرقيه فقالوا لا نرقية إلا بجٌعل وذلك لما رأوه من بخلهم وعدم إكرامهم لهم على حد قوله تعالى ( لو شئتَ لاتخذتَ عليهِ أجراً ..) سورة الكهف آية ٧٧. ولما إتفقوا معهم على جُعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ فأكلوا من الطعام وتركوا الشياه إلى أن عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن حل هذا الجُعل فقال صلى الله عليه وسلم ومن أدراك أنها رقية أي أنها رقية يرقى بها المريض فيبرأ بإذن الله ثم قال صلى الله عليه وسلم كلوا منها وإجعلوا لي سهما معكم .
فشفاء أمراض البدن شيئ موجود في السنة وليس عجيب من العجائب لأنك حين تقرأ كلام الله فإعلم أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه وتعالى وهو رب كل شيئ ومليكه يتصرف في كونه بما يشاء وبكلمة كن يفعل ما يريد وليس ببعيد أن يؤثر كلام الله في المريض فيشفى ولما تناقش بعض المعترضين على هذه المسألة مع أحد العلماء قالوا له كيف يشفى المريض بكلمة ؟ هذا غير معقول فقال العالم لصاحبه أسكت أنت حمار !! فغضب الرجل وهم يترك المكان وقد ثارت ثورته فنظر إليه العالم وقال أنظر ماذا فعلت بك كلمة فما بالك بكلمة المتكلم بها الحق سبحانه وتعالى ؟ وعن عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت ( كان إذا إشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل قال بإسم الله يبريك من كل داء يشفيك من شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين ). صحيح مسلم رقم ٤٠٦٢.
لذا يجب علينا أن نتعامل مع الرقية على أنها دواء أو علاج للأمراض التي قد تطرأ على الجسم سواء كانت مادية أو معنوية. وأن الفرق واضح بين الرقية والرقية الشرعية . الرقية تتم عامة بتعلق شيئ ما في عنق المريض أو المحسود لدفع العين أو الحسد أو الشر أو الخوف أو الفزع أو الجنون… ويطلق على هذا الشيئ اسم تميمة .
أما الرقية الشرعية فتتم بما هو مباح في الإسلام أو بما ورد ذكره في الكتاب والسنة بأنه شفاء من الداء سواء كان الداء مادي أو معنوي . وأن الشفاء بالقرآن متوقف على سلامة الطبع وسلامة الإستقبال والفهم عن الله تعالى لأن الرقية شيئ يُشفى به من المرض.
والمرض قد يكون معنوي مثال الأمراض النفسية وقد يكون مادي مثال اللدغ والجروح . والرقية بالقرآن والسنة ليست فقط لعلاج الأمراض النفسية بل لعلاج كل الأمراض وقد حث الإسلام على ذلك بدليل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثنا عن التداوي وتأمرنا بأن نسأل أهل العلم . معنى ذلك أن قول القائل للمريض إذهب إلى الطبيب أو إلى المعالج يعتبر رقية شرعية لأنه حث المريض على ما أمرنا الله به في القرآن الكريم أو في السنة النبوية بأن نذهب إلى أهل الذكر ومعلوم أن أهل الذكر أو العلم في التداوي أو العلاج الآن هم الأطباء فإن عجزوا فإن كلام الله كله شفاء . وحبذا لو جمعنا بين الإثنين في علاج الأمراض كلها . وبالتالى فإن الفرق واضح وجلي بين الرقية بأقوال وأفعال الشيطان أو بالأشياء المحرمة شرعاً وقانوناً وبين الرقية الشرعية التى نلتزم فيها بما أنزله الله في كتابة الكريم أو في سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وأن الرقية في الإسلام شفاء من كل داء ومن كل شر بالقرآن الكريم والسنة ولاشك أن القرآن والسنة يدعوننا إلى العلم والطب من العلم . إذن الطب بكل مجالاته في حد ذاته رقية قد تكون شرعية إن وافقت الشرع وقد تكون غير شرعية إن خالفت الشرع .
ومن الأشياء المهمة في الرقية الشرعية أن يتجرد المريض من الأقوال والأفعال الخاطئة التي يقوم بها قبل الرقية أو العلاج أو التداوي وخاصة من الأمور الشركية التي تخالف العقيدة الإسلامية مثال دهن الجروح بالنجاسات وغيرها حتى يكون مستعدا لإستقبال آيات القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية أو الأذكار ..وفي المقابل يكون على إستعداد تام لتنفيذ أوامر الطبيب المعالج في غير معصية الله مثال تناول الأشياء المحرمة كدواء كالخمر . وإن كان من الطبيعي أن يذهب المريض إلى الطبيب أولأ ثم إن لم يجد الطبيب للمرض سبب عضوي ذهب إلى رقية نفسه بالرقية الشرعية فإن لم يستطع ذهب إلى غيره . فلا خلاف في أن يرقي المريض نفسه أو يرقية غيره رقية شرعية قبل الذهاب إلى الطبيب لأن المريض إن لم يشفى بالرقية ذهب إلى الطبيب والعكس . وإن من الرقية الشرعية أن يذهب المريض إلى الطبيب إن لزم الأمر ويجب أن يكون من الطب أن يذهب المريض لعمل رقية شرعية في حالة بقاء المرض وغياب الأسباب المادية . والطبيب راقي بكل المقاييس قد يكون شرعي وقد يكون غير شرعي .
وأخيرا فإن الرقية في الإسلام عودة بالجسم أو بالإنسان لفطرته النقية التى فطر الله الناس عليها عن طريق إزالة المعلومات المغلوطه وإحلال مكانها ما هو صحيح من الأفكار والمعلومات بالإضافة إلى نقاء الجسد من الأمراض حتى يبرأ ويعود إلى فطرته السليمة التي تخلو من كل عيب إن قدر الله ذلك وبلغة التكنولوجيا فإن الرقية الشرعية عملية ضبط مصنع للإنسان أو الجسم من المعلومات القذرة التي تعكر صفو حاملها وتدفع به إلى الضرر ليعود الجسد إلى طبيعته النقية .فيكون في أكمل حال لإستقبال ما ينفعه من العلوم والمعارف والأفكار التي تعينه على الطاعة لله سبحانه وتعالى . ولاشك إن كانت الرقية غير شرعية حدث العكس . وإن كان قد صعب على المريض معرفة الرقية الشرعية عن غيرها فالينظر إلى ما يطلبه الراقي منه إن وافق الشرع كانت الرقية شرعية وإن خالف الشرع كانت الرقية غير شرعية . كما هو الحال في التفرقة بين الطبيب المسلم وغيره من حيث تناول الأشياء المحرمة في الإسلام كدواء .