✍️رضا محمد حنه
لم يُكتب للتأمين الصحي أن يكون ترفًا أو شعارًا، بل كان وعدًا بالرحمة وعهدًا بحماية البسطاء من أن يسقطوا في هوة المرض بلا سند.
لكن في دمياط، حيث البحر يجاور الحقول والناس يعرفون قيمة الصحة كمعرفة الصياد للمد والجزر، تحوّل الوعد إلى انتظارٍ طويل، والبطاقة إلى ورقة بلا روح.
حين تدخل عيادة من عيادات التأمين الصحي بدمياط، تستقبلك طوابير البشر قبل أن تستقبلك الجدران.
رجال تجاوزوا الستين يلوذون بعصيهم، ونساء أنهكتهن أمراض السكر والضغط، وأطفال يجرّون أمهاتهم في رحلة لا يعرفون أن نهايتها قد تكون خيبة.
أمام شباك صيدلية واحد، يقف العشرات، بينما النوافذ الأخرى مغلقة كأنها عيون مطفأة في وجه مريضٍ يستغيث.
تقول حالة، وهي سيدة خمسينية :انتظرت ساعتين للكشف وساعة لصرف العلاج، وفي النهاية أخبروني أن الدواء غير موجود… هل هذا هو التأمين الذي ندفع له كل شهر؟
أما حالة أخري على المعاش، فقد وصف المعاملة بأنها، صادمة لكبار السن… نحن لا نريد سوى حقنا، فهل أصبح العلاج رفاهية؟
الحديث عن نقص الأدوية أصبح لازمة تتكرر على كل لسان، دواء ضغط غير متوفر، حقنة أنسولين مفقودة، شريط مسكن يحتاج إذنًا وساعة انتظار.
بعضهم يعود إلى البيت خالي اليدين، وبعضهم يضطر لشراء ما يلزم من صيدليات خاصة بأضعاف الثمن.
أين إذن معنى التأمين الصحي، إذا كان الدواء يتسرب من بين الأصابع؟
وتضيف حالة أخري، وهي أم لطفل يحتاج جلسات تخاطب: قالوا لي بالحرف… إذا أردتِ علاجًا لابنك فاذهبي للعيادات الخاصة. أليس هذا فسادًا؟
ولم تقف المعاناة عند حدود الدواء، بل تجاوزتها إلى المعاملة.
وجوه مرهقة تبحث عن كلمة طيبة، فلا تجد إلا جفاءً إدارياً، كأن المرضى متسولون لا أصحاب حق.
وزاد القرار الإداري الذي نما إلى علمي بالاستعداد لنقل عيادة الأمل إلى شطا من المعاناة، إذ تحوّلت المسافة القصيرة إلى جدار صعب على كبار السن والمرضى محدودي الحركة.
القرار جاء بلا دراسة كافية، وكأنه لم يسمع صوت الناس الذين أنهكتهم أقدامهم قبل أن تنهكهم أمراضهم.
وزارة الصحة لم تكن غائبة تمامًا، فالجولات المفاجئة حدثت، والوعود بالإصلاح تكررت، لكن بين الوعود والواقع فجوة واسعة لا يردمها إلا فعل جاد.
المريض لا يحتاج من يأتيه بالكاميرات، بل من يأتيه بالحلول.
ما أردت قوله……
يا معالي وزير الصحة…
يا سيادة د/ رشا مصلحي
مديرة التأمين الصحي بدمياط…
دمياط لا تطلب المستحيل، بل تطلب الحق الذي كفلته القوانين.
تطلب دواءً حاضرًا لا غائبًا، وصيدلية مفتوحة لا مغلقة.
تطلب موظفًا يبتسم قبل أن يختم الأوراق، وطبيبًا يسمع قبل أن يكتب الوصفة.
تطلب أن يُراجع قرار النقل بعين إنسانية، قبل أن يُنظر إليه كإجراء إداري.
الحل ليس عسيرًا:
مخزون دوائي ثابت يقي المرضى رحلة التيه.
إدارة تنظيمية رشيدة تختصر الطوابير وتُعيد الانضباط.
تدريب حقيقي للعاملين على أن المعاملة الكريمة جزء لا يتجزأ من العلاج.
مراجعة شاملة للقرارات التي تُثقل كاهل المرضى بدل أن تخفف عنهم.
إن دمياط تستحق أن يُعاد للتأمين الصحي معناها الأول: أن يكون جدار أمان لا متاهة عذاب.
وحين تنصت وزارة الصحة لنداء المرضى، لا باعتباره شكوى عابرة بل صرخة حق، عندها فقط تتحول الطوابير من مشاهد ألم إلى شهادة ثقة، ويعود التأمين الصحي اسمه على مسمّاه… أمانًا وصحةً ورحمة.
و دمتم بألف خير وصحة وسلامة يا رب العالمين
