لم أكن أتوقع، حين بدأَت صلتي بكتابات الأديب الإرتري هاشم محمود، أن يشدَّني إلى عوالمِه الإبداعية بهذا الشكل؛ ظننت أيامَها أنه شابٌّ متحمس، يبحث له في الساحة الأدبية عن موضعِ قدم، ويحاول التعبيرَ عن همومه في مهاجَره الاضطراري، وعن مأساة شعبه في قبضة حكامٍ مستبدين، وسوف يقول كل ما عنده في عملين أو ثلاثة، ثم لا يجد عنده ما يضيفه أو يتحدث عنه. صحيح أنني رأيتُ في كتاباته ما كان ينبئ عن طاقةٍ إبداعية مختزَنة، وأفكارٍ كثيرة لم يقلها بعد، لكن ذلك لم يكن كافيًا لكي أكون على يقينٍ من أنه سيواصل الكتابة الروائية بهذه القوة والغزارة.
وأذكر أنه حين أراد أن يدفع بروايته “فجر أيلول” إلى المطبعة، طلب مني أن أكتب عنها كلمةً تقدمُها إلى القارئ، ولم أكد أبدأ في قراءتها، كما قلت في مقدمتها، حتى وجدت نفسي مأخوذًا بأسلوبها اللغوي المبين، ومشدودًا إلى متابعة أحداثه المأساوية المثيرة. ولم أستطع أن أتركها إلى غيرها حتى أتيت عليها من الألف إلى الياء في جلسة واحدة. بعدَها أحسست بشيءٍ من الخجل لتقصيرنا في متابعة ما يكتبه إخوانُنا في القارة السمراء من أدب عربي مدهش، لا يقل في روعته، شكلًا ومضمونًا، عما نقرؤه لكبار كُتَّابِنا وأعلام أدبنا.
ولم يكد يمُرُّ عامٌ على صدور هذه الرواية حتى أرسل إليَّ روايته “كولونيا الجديدة”، وهي امتدادٌ طبيعيٌّ لسابقتها، وإن تميزت عنها بأنها إلى الوصف والتحليل أقرب منها إلى التوثيق والتسجيل، وأن نبرة الغضب فيها أكثرُ حِدَّةً وأعلى صوتًا. ووجدتني أكتبُ عنها بحماسة صادقة، ولا أدري أن كنت قد بالغت حين قلت في دراستي عنها، وقد جاءت في أكثر من ثلاثين صفحة، إنه بروايته هذه ، والروايات التي سبقَتها، صار يتربَّعُ على عرش الرواية العربية في إرتريا، وأنه صار من أبرز أعلامِها، لكن من المؤكد أنه صار واحدًا من أهَمِّ من شُغِلوا بقضايا بلادِهم، وعملوا جادِّين ومخلصين على توثيقه بالكلمة وتسجيله بالفن، وأنه يناضل بالحرف، ويقاوم بالفكر، ويجابه بالإبداع.
كان يدهشني تنوعُ موضوعاته وغزارةُ إنتاجه، وسمحَت لي صلتي به أن أسأله عن ذلك مباشرة، فقال لي كلامًا كثيرًا، وأسهب في ردِّه إسهابًا فهمت منه السرَّ وراء ذلك؛ فالرجل عنده الكثير مما يمكن أن يقول، في مختلِف شئون وطنه وقضايا أمته، وهو مُشغَلٌ بما يحدث في بلاده وفي الوطن العربي كله، ويرى أن ما يحدث هنا وهناك سلسلة محكمة الحلقات، ومخطَّطٌ واضح في رؤوس مدبريه، وهو في سبيله إلى إصدار رواية تحاول جمع الخطوط المتفرقة، سياسيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، في إطارٍ فني متناسق يربط بينها ويبين المؤامرة التي وراءها.
ولمَّا سألته عن الغزارة في الإنتاج والنشر، وهي مثار تساؤل كثيرين، قال إنه ينظم وقته، ويحدد حوادث رواياته وشخوصَها، ويخصص لكل فصلٍ وقتًا محدًّدًا لينتهيَ منه فيه، ولا يهدأ له بالٌ حتى ينجز ما عزم عليه، فالأمر ببساطة يتصل بتنظيم الوقت وتوزيع العمل، وقبل ذلك وبعده الصبر والمثابرة والاستمرار، ولقد وصل به الحال إلى أن يفرض على نفسه عددًا محددًا من الصفحات لا بدَّ من كتابته كلَّ يوم، وكأنما قد نذر أن يجعل وقت فراغه كله لفنه وإبداعه، وأن يجعلهما في خدمة قضية بلاده وتوثيق تاريخها، وإن كان يجد أحيانًا صعوبة شديدةً في التوفيق بين الفن والتاريخ، أو بين الدراما والتوثيق، وهو ما يعالجه في كل رواية بصورة أفضلَ نسبيًّا من التي سبقتها.
ولقد أثار مواجعي كثيرًا وهو يكلِّمُني عن أدباء إرتريا في المهجر، وما يعانونه بعيدًا عن بلادهم من مرارة الغربة وآلامها، وكيف أن هذه الغربة قد فُرضت عليهم فرضًا، ودفعوا ثمنها باهظًا، وإن كانت قد أثمرت أدبًا نضاليًّا له ملامحه الخاصة وموضوعاته المتميزة، وجاءت رواياته كلها تقريبًا من هذا النوع، “الطريق إلى أدال”، “نقوريا”، “شتاءأسمرا”، “الانتحار على أنغام الموسيقى”، “فجر أيلول”، “كولونيا الجديدة”، “الكتيبة 17″، ثم روايته الأخيرة “عزيز”، التي انتهى منها في شهر أغسطس 2023، وطبعتها دار النخبة بالقاهرة، وسوف أخصُّها هنا بكلمة موجزة، أتمنى أن تكون تمهيدًا لدراسة مفصَّلة تصدرُ في القريب العاجلِ بإذن الله.
• رواية “عزيز”:
تقَعُ رواية “عزيز” في مائتين وسبعٍ وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، موزَّعَة على خمسةٍ وثلاثين فصلًا، وتدور أحداثُها الكبرى في سجنين من السجون الإرترية الموحشة والوحشية معًا، وإن شئت فقل في غرفتين من غُرف الاعتقال أو الحبس الانفرادي، ولعل هذا هو ما يُدخِلها فيما يسمَّى بـ “أدب السجون”، وهو لون من الأدب الذي يشيعُ في أزمنة القهر والاستبداد، وأكثرُه يكتبه من عاشوا تجربة السجن واقعيًّا، وعانوا ويلات الظلم وصولة البطش وقسوة التعذيب، وأقلُّه يكتبُه عنهم من سمعوا بمأساتهم الفاجعة الموجِعة، وشاركوهم بالوجدان الصادقِ في محنتهم الإنسانية الأليمة.
وكتابات السجن، كما تقول الدكتورة رضوى عاشور، رافدٌ مهم من روافد الأدب العربي الحديث ـ وإن كنت أرى أن له أصولًا ونماذجَ ترجع إلى العصر الجاهلي، ليس هنا موضع تفصيلها ـ أسهم فيه بدرجات متفاوتة، رجالٌ ونساء، ليبراليون وشيوعيون وإسلاميون، وأفراد لم ينتموا لأيٍّ من هذه الاتجاهات السياسية، وكتاب مهمتهم الكتابة، وكتاب كان نص السجن هو نصهم الوحيد، سجَّلوا فيه تجربتهم، ثم مضَوا إلى أشغالهم وتخصصاتهم الأخرى. ولدينا منها أمثلة كثيرة، من بينها: “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، و “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم، و ” معتقل كل العصور” لفوزي حبشي، و “تزممارت: الزنزانة رقم 10” لأحمد المرزوقي، و “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلُّون”، و “يا صاحبَيَ السجن”، لأيمن العتوم.
ولا أخفي عن القارئ أنني، بعد أن فرغت من قراءة هذه الرواية، قد عُدت إلى كتابين آخرين قبل أن أخطَّ في هذه المقالة حرفًا، أولهما رواية “ذكريات من منزل الأموات” للكاتب الروسي الشهير دستويفيسكي، والثاني هو “الأوردي: مذكرات سجين” للمناضل المصري سعد زهران، وكلاهما يصوران تجربة شخصية لمؤلفيهما، وتذكرت ما كنت قرأته منذ سنين عديدة للأستاذ مصطفى أمين حين أخرج سلسلة كتب عن “سنة أولى سجن” وثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة. وسوف يجد القارئ مشابه واضحة وقواسم مشتركة بين كل هذه الأعمال، تمامًا كما سوف يجد فروقًا واختلافات، فالكفر ملَّة واحدة كما يقولون، والظلم هو الظلم في أي عصرٍ وفي أيِّ مكان، ثم يبقى بعد ذلك لكلِّ تجربةٍ مذاقُها وتفاصيلُها وملابَساتُ حوادثِها، ولكل كاتب أسلوبُه وطريقته في التفكير والتعبير والتصوير.
تبدأ الرواية بسؤالٍ عن أول رجلٍ بنى سجنًا على ظهر الأرض، كيف خطرت بباله تلك الفكرة الشطانية؟ وطبيعة المجرمين الذين ابتكروا فلسفة القضبان، أيُّ شيطانٍ هذا الذي أوحى إليهم أن يقتلوا الأرواح ويكسروا النفوس،ويُذِلُّوا الرجال في أقبيةٍ موحشةٍ مظلمةٍ كما القبور؟ ما الذي يزعجهم في أن يعيش الناسُ أحرارًا؟ ثم يقدم الكاتب إجابة مختصرةً جدًّا، وساخرةً جدًّا، يسوقها على لسان الذين انحدروا من أصلاب السجانين: “الزنزانةُ حاضنةٌ آمنةٌ من خطرِ الأحلام”. ومن بعدها مباشرةً تظهر شخصية عزيز، وهو واحدٌ من أبناء إرتريا الثائرين، يرى نفسه ذات يوم بين جدران غرفة مظلمة، يدفع فيها ثمن حبه لبلاده، وشجاعته في المجاهرة برأيه في فساد الحكام واستبدادهم، ويتأكد له منذ البداية أن السجون قد فتحت أبوابَها له، انتقاصًا من اسمه، وإذلالًا له، وانتقامًا من “داء الحرية” الذي يسكنُ صدرَه.
• عالَم السجون:
إن السجن، أو المعتقل، هنا يثير الغيظ والغضب، بقدر ما يثير الخوف والرهبة: مكانٌ متطرفٌ موحش، وأسوارٌ عالية، وأسلاك شائكة، وحلبة كبيرة مظلمة، يتبارى فيها الساديُّون بالاستقواء على أجسادٍ ضعيفة وأرواح خفيفة، يحملُها ألم العذاب إلى سحابات طائرة بلا وجهة، لكنها تحلم بأن تسيل يومًا على أرضٍ طيبةٍ، لم تدنسها أقدامُ الساديين وملوك التعذيب.
كان عزيز معلِّمًا إرتريًّا حرًّا، يأبَى الضيم ولا يقبل الظلم، وله أكبر الحظ من اسمه، وكان عليه أن يدفع ضريبة كرامته وكبريائه، في بلد يتحكم في مصائر أهلها أمثال (مسيلمة)، يعتقد مسلمو إرتريا أنه بؤرة السرطان، وهو رجلٌ طويل القامة، أسوَد البشرة، مكفهر الوجه، فيه بثور وهالات سوداء ظاهرة للعِيان، يحمل داخله حقدًا كبيرًا على كل من يجاهر بأنه مسلم.
كان عزيز يدرك أنه مراقب، وأن عيون الجواسيس وآذانهم تتبعه في كل مكان، وتسجل عليه كل كلمة يقولها، بل إنها تكاد تحصي عليه أنفاسه؛ ففي الدولة البوليسية التي يسيطر عليها جهاز المخابرات، يكون جميع المواطنين متهمين حتى تثبت براءتهم، ومشكوك في أمرهم حتى تتبين حقيقة أمرهم، وهذا هو ما دار في رأسه حينما دعاه مسيلمة ليشرب معه فنجانًا من القهوة، ولذلك لم تكن مفاجأة له حين وجد (سلمون) هناك، وهو ضابطُ مخابراتٍ ماكرٌ، يعرف كيف يوقِع ضحاياه في الشَّرَك، ولا يعدم الوسائل الرخيصة التي تحقق له ذلك.
حاول سلمون أن يصل إلى فهم عزيز أنهم يعرفون عنه كل شيء، وهو ما كان يعرفه سلَفًا، وقال له: إننا نعرف مكانتك الاجتماعية والدينية، ودورك المجتمعي، وتأثيرك بين الناس، وأنت مقبلٌ على رحلة خارجية خدمةً لوطنك، ونحن معك في كل خطواتك… كل المطلوب منك أن تتعاون مع جهاز المخابرات، من أجل حماية نفسك أولًا، وأسرتك ثانيًا. وكان واضحًا أن هذا العرض هو إلى التهديد أقرب منه إلى الإغراء، وكان رد عزيز قويًّا وصريحًا، فقال وهو يكتم غضبَه: لا يمكن أن أصبح مصدرًا، وأعمل لصالح جهاز الاستخبارات. لقد كان يوقن أنه لو قبل هذا العرض الخبيث فسوف يكون جاسوسًا على رفاقه، يشي بهم وينقل أخبارهم إلى خدَم السلطان وزبانيته، ومن هنا كان رفضه القاطع الذي صدم سلمون وجعله يستشيط غضبًا، ويقول لعزيز: إن ما سمعته عنك كان حقيقةً إذن؛ فأنت رجلٌ خائن، تغرر بالمغفلين، وتحرضهم على التمرد وإثارة الشغَب بالقول والفعل. وهي التهمة الجاهزة التي يعدها رجال المخابرات لكل من يقف في وجههم ولا ينفذ ما يطلبونه منه.
وباءت كل محاولات إغراء عزيز واستدراجه بالفشل، ولم يعجز جهاز المخابرات أن يلفق له تهمةً تذهب به وراء الشمس كما يقال، فزعموا أنه عضو في جماعة إرهابية، ويتلقَّى تمويلًا من الخارج للإضرار بأمن إرتريا، وأنه خطرٌ على البلاد والعباد، وأن بقاءه حرًّا طليقًا يزعزع الأمن العام ويهدد استقرار الدولة، ووصل تقريرٌ مفصَّلٌ بذلك إلى (محاري)، وهو ذراعٌ باطشٌ من أذرعة النظام التي لا ترحم، وعدوٌّ لدود للمسلمين، تخصص في تلفيق التهم ضد الأبرياء، وكثيرون من ضحاياه لم يعرف لهم الذباب الأزرقُ بعد اختفائهم طريقًا. وصدر قرارٌ بمنع سفر عزيز من السفر، وأُعلنَت حالة تأهبٍ قصوى للإيقاع بالصيد الثمين، قبل أن يطير بجناحيه خارج البلاد.
استوقفت أجهزة المخابرات عزيزًا، وتنقل بين مكاتب تحقيق كثيرة، وفي النهاية ألقِيَ به في سيارة تشق طريقها المجهولة في رحلةٍ غير معروفة، وصلت به إلى إدارة أمن كرن، على بعد خمسين مترًا فقط من داره، وهناك، قريبًا من أهله ورفاقه، بدأت رحلة تعذيبه وإهانته والتنكيل به، غير أنه لم يضعف ولم يستسلم، ولم يتراجع عما آمن به، وظل يتذكر أنه ابن الشيخ العلامة المربِّي الذي نشَّأه على مبدأ “من عاش لنفسه، ليس كمن عاش شمسًا تنير الطريق لغيرها”، وشتان بين الاثنين.
ولم يكن عسيرًا على أهل كرن أن يعرفوا السبب وراء اختفاء عزيز، وحين علموا بخبر اعتقاله، أو اختطافه إن شئت، عمهم الحزن والقلق على مصيره، واغتمَّ أبناؤه وأهل بيته جميعًا، لكن والده الشيخ الذي ابتلي باعتقال ابن له من قبل، تجلَّد وتماسك، وقال في صبر المؤمنين بقدر الله، وكأنه يعقوب:
ـ عسى الله أن يأتيَني بهم جميعًا.
كانت زنزانة عزيز غرفةً كئيبًة يعيش فيها الموت، وسجنًا انفراديًّا يليق بوحدته؛ حيث لا صديق هناك تحت سطح الأرض بأمتار، سوى الظلام الدامس، وهو يجلس مكبل اليدين، لا يجد في نفسه طاقةً لالتقاط نفَسٍ من الهواء، ويمضي ليلٌ في باطن ليل، وتتراكم ظلماتٌ بعضُها فوق بعض، وقُبيل الفجر يُسمح له برمي النفايات ودخول المرحاض مكبل اليدين، فيما لا يتجاوز خمس دقائق، تحت مراقبة سجان له جسد إنسان وروح شيطان، ولا تقل ألفاظُه إيذاءً وتعذيبًا عن سوطه.
إن وراء القضبان عالمًا آخر غير الذي نعرفه، فيه من القسوة والوحشية ما يجعل الإنسان يشك في كل ما يقرؤه عن قيم الرحمة والحب والإنسانية، هناك يُصَفُّ المعتقلون، مهما كان سنُّهم ومقامهم، ويُجبَرون على الانحناء عند الدخول أو الخروج، ويقف أعوانُ الظلمة بمحاذاتهم، يركلون مؤخراتِ الرجال وظهورَهم، ويصفعون وجوههم ورؤوسَهم والرقاب، يسبُّون شرفَهم وشرف آبائهم وأمهاتهم، ويلعنون كل راغب في الحرية، وينكِّلُون بكل من يَحلم بها.
• سجَّانان متوحشان:
إذا كان لكلِّ سجنٍ سجَّانٌ بلا قلب، عنوانه الفظاظة وديدنه الصلافة ومنطقه البذاءة، ففي هذا السجن كان (محمود) هو الغول الذي يثير الرعب في كل من يقطنون زنازينه يكفي أن تسبقه نبرة صوته الغليظة الكريهة لتختلجَ الصدور بالرعب، وترتعد فرائص الرجال، ويدرك كل من سمع صوتَه أن جولةً من الوحشية المُذلَّلة المهينة قد أتت، والويل كل الويل لمن وقع تحت جبروته، وقد نال منه غضبُه.
أمَّا (عثمان) فقد كان لئيمًا فاجرًا، ولعله كان زنديقًا ملحدًا، يصفونه بأنه “ثعبان سجن أبي غريب الإرتري”، لا تأخذه بألمساجين شفقةٌ ولا رحمة، ولا يطيق أن يسمع أحدًا يذكر الله، وحين ردَّدَ عزيز اسم الله ذات مرَّةٍ وهم يضربونه ليعترف بما لم يرتكب، قال له عثمان هذا: هنا الجبهة الشعبية فقط، ولا شيء سواها، عليك أن تردِّدَ: حكومتي! حكومتي! عليك أن تسبِّحَ بحمدِها وتستغفرَها.
وظل عزيز في هذا العذاب سنين طويلة، يجلَد ويضرَب ويُركَل ويُهان، وأهل بيته ينتظرون خروجه، ويحمدون الله على أن عرفوا مكانه أخيرًا، وتردد على زيارته أهل كرن وكبراؤها، وكانوا يرون فيه مثالًا عجيبًا للصمود والشموخ، وكان يتحمل ما لا يتحمله أحد، وكانوا ينقلون من مكانٍ إلى مكان، وفي كل سجن كانت تمارس عليه أشد صنوف التعذيب وحشية، ويهددونه بالقتل إذا لم يستجب لما يريدون، إلى درجة أنه أخذ يردد الشهادة ذات يومٍ استعدادًا لتصفيته المفاجئة. ومن العجيب أنه وهو يعاني كل هذا، كان يبث الحماسة في نفوس زائريه، ويدعوهم إلى الثورة على الظلم، مهما كانت التضحيات، وكأنه يؤكد لهم قول أمير الشعراء:
وللحُــــرِّيَةِ الحمراءِ بابٌ ** بكلِّ يَــــدٍ مُضَرَّجةٍ يُدَقُّ !
وتمرُّ الأيام والشهور، ويشاء الله أن ينتقم من عثمان أعظم انتقام، ويُرِي فيه الناسَ آية من آيات عدله وحكمته، فيصاب بداء السكري، وتتدهور صحته، وتنتكس حالته، فتبتر إحدى ساقيه، وبعدها بقليل تبتر ساقُه الأخرى، ويرقد على الفراش ككلبٍ أجرب، تفوح منه الروائح النتنة، ولا يطيق أحدٌ الاقتراب منه. لقد طغى وبغى، وكاد يقول للناس أنا ربكم الأعلى؛ وجاهر بعداوته لله بشكلٍ لا مثيل له، ققد كان يَذْرَع أرض السجن علوًّا واستكبارًا، وحين يسمع أحد المظلومين وهو يطلب نجدة السماء، يسخر منه ويقول: فلْيأْتِ ربُّك لينقذَك، إن كان يستطيع. وكان مصيره شبيهًا بمصير فرعون، ولم يمش في جنازته أحد، رغم أن إدارة الأمن قد أجبرت الناس على حضور دفنه، فهلكَ منبوذًا وحيدًا، وقد شيعه الناسُ باللعن والسباب.
وبعد ثلاثة أعوامٍ قضاها عزيز في سجن عدي خالا، وثلاثةٍ عجافٍ في أبي غريب، أُصِيب بالتهاب المفاصل والرطوبة، وقدَّم التماسًا يطلب فيه نقلَه إلى أسمرا لتلقي العلاج، لم توافق السلطات عليه إلا بعد جهد جهيد، وكان يوم وداعه يومًا حزينًا باكيًا، ووسط صمت المودعين من السجناء، قال عزيز في حسرةٍ نبيلة: عجيبٌ أمرك أيها الوطن؛ علينا ان نكون أبناء ليالٍ حمراء أو من أذناب المستعمر لنعيش كرامًا، في وطنٍ يُذِلُّ أبناءه الأصليين، ثم يضيف وكأنه يقدِّمُ لنا بطاقة تعريفٍ بنفسه:
اسمي: عزيز
تهمتي: مسلم
ذنبي: وطني
علتي: إرتريا
عَدوِّي: فلاسفة القضبان
هُويتي وهُوية أبناء قومي: أننا ثابتون، نحارب من أجل البقاء آمنين من الاختفاء فقط، ولا أحد يأمنه، لأن أذناب الظلام تنتشر في كل مكان، والأقبية المظلمة تستعرُ مثل نار الجحيم، بانتظار وافدٍ جديدٍ كلَّ يوم.
وبعد تعقد حالته الصحية، ونقله من مستشفى إلى آخر، تمكن أحد رفاقه من أن يقابل طبيبًا إخصائيًّا من جمهورية الصين، وعرض عليه حالة عزيز، فكتب تقريرًا يؤكد أنه لا مجال لعلاجه في مستشفيات إرتريا، وأن الأمل ضئيلٌ في علاجه بالخارج، وبعدها استدعاه مدير عام السجن، فذهب إليه مهدود القوى متكئًا على عصا، وأخبره بأنه قت تم العفو عنه، وحين علم رفاقه بخبر إطلاق سراحه، أقاموا حفلة توديع، ألقى فيها الطلاب والأساتذة، وحتى إدارة السجن، كلماتٍ مؤثرة وصادقة، لم يتمالك الجميع خلالها دموعهم المنهمرة رغمًا عنهم.
يقول عزيز في ختام الرواية:
“وهكذا انتهت الجدران الضيقة والأسلاكُ الشائكة، الخطوات تجاه البوابة كانت ثقيلةً، ولها صريرٌ غريب يسيطر على جوقتي الداخلية، لا أسمع أصوات الذين يزفون حريتي إلى البوابة الكبيرة إلا كرَجع أصواتٍ من الذاكرة، هالةٌ من النور الكثيف تلفُّني، وتحملُني كأنِّي غمامةٌ والأرض تدور من تحتي. هل أنا على بوابة الحرية؟ أم على بوابة الغيبوبة والدخول في حالةٍ من الإغماء الطويل؟ بعد كلِّ هذا العناء لا شكَّأن سقوط المحارب بعد الخطوة الأخيرة سقوطٌ مبرَّر…
****
هذه هي أحداث الرواية في مجملِها، ولا أدري إن كنت قد وفقت في عرضها أم لم أوفَّق، ولكنني على يقينٍ بأن هذا العرض الموجز لا يُغني عن قراءتها كاملةً، فتلك متعةً أخرى لا يعرفها إلا من يدركون الفرق بين وصف الرحلة المثيرة وبين الرحلة المثيرةِ نفسِها، ومن المؤكد أن تلخيص رواية ما، مهما بلغ من الدقة والرقة، لا يمكن أن يحيط بها إحاطةً شاملة، ويبقى على القارئ المحبِّ أن يطالعَها بنفسه، لعله يحكم عليها بغير ما حكمْت، ويرى فيها من الميزات أو العيوب ما خفي علَيّ.
وتبقى في النهاية ملاحظةٌ يسيرة، وهي أن الرواية على طولها قد خلت من أي عنصرٍ نسائيٍّ فاعل، وفيما عدا (خلود) ابنة عزيز، وامرأة كانت تعذَّبُ هنا وأخرى كانت تعذَّبُ هناك، وبنت صغيرة وُلدت في أحد السجون، لا نجد ذكرًا لامرأة لها تأثير في سياق الأحداث أو تحريكها، ولعل الكاتب قد انشغل بعزيز ورفاقه المناضلين، وعملُهم يحتاج إلى القوة والجلَد وتحمل الأذى والصبر على المكاره، وهو ما قد لا تكون المرأة غير مستعدة له أو قادرة عليه.
وأستطيع الزعمَ بأن النهاية في الرواية نهايةٌ مفتوحة، (Open End)؛ ففيما عدا مهلك عثمان، وإطلاق سراح عزيز، يبقى الوضع على ما هو عليه، اللهم إلا ما كان من إشارة إلى تأثر أهل كرن بآراء عزيز وشخصيته.
ولقد كان الكاتب موفقًا في اختيار اسم بطل الرواية، حيث يرمز إلى عزة المناضلين وكبريائهم، وقد أشار إلى ذلك إشارة صريحةً حين قال على لسان البطل: “اسمي عزيز، لكنني أرزَحُ تحت قيود الذلِّ التي ضربَها فلاسفة القضبان حول عنقي”. كما نجده قد فعل شيئًا قريبًا من هذا حين اختار أسماءً لها دلالتها، مثل: (خلود) ابنة عزيز و(صامد) أخيه.
هذا، والرواية بموضوعها ومضمونها، تفتح الباب واسعًا لمناقشة ما يحدث في السجون والمعتقلات، ومحاولة إيجاد تفسير نفسيٍّ واجتماعي لطبيعة السجان ومحترفي التعذيب، ولعلَّ خير ختامٍ يقدم لنا إجابةً مؤقتةً عن هذا هو ما قاله أفلاطون في الجمهورية :
“إذا ذاق المرءُ قطعةً من لحم الإنسان تحوَّل إلى ذئب… ومن يقتل الناسَ ظلمًا وعدوانًا، ويَذُقْ بلسانٍ وفمٍ دنسين دماء أهله، ويشردهم ويقتلهم، فمن المحتَّم أن ينتهيَ به الأمر إلى أن يصبحَ طاغيةً ويتحوَّلَ إلى ذئب”.
ألا ما أكثرَ الذئابَ في هذا العالَم !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيما عدا الروايات التي ذكرتُها في أول هذه الدراسة مثالًا لأدب السجون، يمكن للقارئ أن يجد مزيدًا من المعلومات حول هذا الأدب وطبيعته في الكتب التالية:
* أدب السجون، تحرير شعبان يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2014
* أدب السجون في فلسطين، إيمان مصاروة، شبكة محررون، سنة 2000
* شعرُ الأسر والسجن في الأندلس، جمع وتوثيق ودراسة، د. بسيم عبد العظيم، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثانية سمة 1996
ومن المفيد أن يرجع القارئ الكريم إلى كتاب:
* الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، د. إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد مارس سنة 1994
د. شعبان عبد الجيِّد
شاعرٌ وأكاديميٌّ مصري