*في دمشق*
هناك آلاف من أيام الزمن العاثر، المغبر..
هناك مئات من ساعات الإنتظار الفاشلة..
وبضع دقائق طويلة في سلطان ذكراها..
عشرات الآلاف من النظرات التي تباغتك بالتفاتةٍ خجلى ثم تنكسر بطريقة ملغومة. تختفي ويختفي معها، تحت الجفن كل أسرار الأوقات العابره، الأوقات الهنية، الأوقات المخملية، والأوقات التي تسقط في درج العمر ودرج الحسابات التي لا وزن لها “أوقات المتعبين”..
في دمشق…
لم تعد العجائز وحتى العجائب تثير جدلاً أو حواراً هامشياً بين عابري الطريق..
لقطات صور تخترق كل إحساس غائر لدى الإنسان، تستفزه و تستجدي منه صرخة تملئ سماء الياسمين..
في دمشق…
الأيام حبلى بكل تلك الاستفسارات القاهرة، والمخاض عسير
ومنهك لكل تلك التشققات التي لا يمكن أن يشرح لك عن مدى قساوتها سوى الأم الثكلى التي استنزفت كل خلاياها على مدار تلك الشهور؛ لتتحول بمقياس وقت هذه المدينة الساهرة الي عشرون سنة مرت وستكتمل كأنها لحظات ولادة، ترتجف فيها عظام الأم تميد، تنكسر؛ تتجدد وتؤلم حتى آخر مدى يمكنك تصوره لتُخلق أنت وأنا ونحن وهم وهؤلاء وأولئك البعيدين؛ ومن بعدها ترتسم ابتسامة مبللة بدمعة فرح هائلة في صدقها، مفرطة في حنينها، عظيمة في عطائها تحت جنح سنة الحياة في هذا الكون. وكأن ولادة المدن كما هي ولادة الإنسان، ولادة الحضارة، ولادة الخير، ولادة القانون. تحتاج مخاضا مؤلماً مع نهاية سعيدة.
في دمشق!!..
في شوارعها الضيقة ومساكنها البسيطة المتلاصقة، أصبح سؤال ذلك الطفل الصغير يحكي عن حقيقة مُره ربما تاهت عن توقع الكثيرين. لماذا لم نُخلق في الجنة وفي يوم الآخرة نحاسب على أخطائنا في هذه البقعة من الأرض. سؤاله أصاب مقتلا من الروح، ودمعته الدافئة أبحرت على شواطئ العيون المتعبة من شدة الاختفاء بحجة السلامة، وتركت لشرود الذهن أن يشعل فتيل الأفكار بشرارة ممزوجة بكل ما أمكن من قوة تبحث عن ملجأ ما. استباحت كل ثانية استكان وأشعلت حرباً مخفية نجاهر فيها مع لقمة العيش والملح، ونرسم معها أخيلة الأمل المتراقصة بعيدا ها هناك دون أي خيط يصلنا بها سوى ساعات الانتظار الفاشلة فإلىٰ متى!؟…
في دمشق…
وعندما تخطو إلى تلك الرفاهيه المعلقة على أطراف المعاطف الثمينة والكافيهات المتألقه في اب تاون، تتغير من أمامك كل الزوايا وتنعكس المرايا وتصبح ألوان الزجاج العاكسة شيئاً يحاكي كل الماركات، والطاولات المذهبة، والسلالم الدائرية، وتخلق كل تلك الوجوه ابتسامات طريفة لطيفة تطالعك بين حين وآخر. تضحك تمرح تشرب النسكافيه غولد حتى تبقى آخر قطرة من الفنجان لتذكرك بعطش ذاك الصغير في أزقتة المهترئة. لكنها لم ولن تكن أكثر سوءاً من نفوس مهمليها على حساب أرقامهم البنكية
العمر هو أعظم خسائر الحكايات الفاشلة…
الإنسان هو أكبر خسارة لساعات الانتظار الفاشلة…
والفرصه هي أكبر شرارة ذكاء تلتمع في ذهنك وأمامك…
عندما تجدها في وصال ما، في جلسة ما، في فعل ما، في علم ما، في قلب ما، وربما في وطن ما، وفي كل أصقاع الكون كيفما كانت وأينما كانت..
تمسك بها، أحتفل بها، أكرمها كما أكرمك الله ، وأبحر معها في تلك الدقائق الطويلة ليكون سلطان ذكراها هي سبب ضحكتك وسعادتك حتى آخر لحظات هذا الزمن العاثر والجميل في بعض أصقاع الأرض.. وإن كانت في دمشق الثكلى.
في دمشق…
مدينة قلبي..عبق الياسمين..روح الحياة في مهدها ولحدها..
هناك للحب عنوان، وللحرب ظلال، ومن الولادة تخلق أجيال، تضحك تبكي تضيع في كل شوارع مدن العالم لتعود لها وفي صميم القلب و على أطراف الشفاه المبتسمة هناك رجفة من غصة على دمشق الطيبة وسوريا الحبيبة لا بد وإن طال الزمان أن تصبح ارتعاشة فرح وسعادة وخير يملئ عيون كل هذه الأجيال
وتباً لساعات الانتظار الفاشلة…