يلفني عالم من الهدوء و السكينة و الشاعرية كلما عادت بي الذاكرة إلى أيام زمان و تأتي المشاهد إلى خيالي و معها صوت الوتريات الموسيقية الرقيقة و قصائد عبد الوهاب و يا ليل يا عين و كلنا نحب القمر و شجاني نوحك يا بلبل و كروان حيران و مطولات أم كلثوم التي تستمر ثلاث ساعات و الأذن تسمع في استرخاء وخلو بال و الرؤوس تهتز في طرب و كمان يا ست كمان .. لا استعجال و لا قلق و لا توتر .. و في الصفوف الأولى تجلس الصفوة من رجالات مصر من أطباء و مهندسين و فنانين و بكوات .. و الشوارع خالية آخر الليل و أفيشات الأحلام تسطع عليها الضوء .. الوردة البيضاء .. العزيمة .. فجر الإسلام .. دعاء الكروان .. العزيمة .. فجر الإسلام .. دعاء الكروان .. و رذاذ المطر المنعش ..
و طعم سندويتش لذيذ بالفول .. و أحلام رفافة تهدهد القلب .. أيامها لم نكن نعرف لنا عدوا سوى الإنجليز .. ولم تكن ظهرت بعد التيارات الشيوعية و الماركسية التي قسمتنا إلى يمين و يسار و جعلت منا أعداء لبعضنا البعض .. و أشعلت البغضاء والكراهية في الشارع الهادئ ..
كانت أياما رخية من الصداقة و المحبة و المودة . .
و أتيقظ فجأة من الذكريات و كأنما لطمني الزمن بعنف و أتلفت حولي في عالم اليوم و أقرأ على الجدران أفيشات الأفلام و أتابع بذهول تطور العناوين .. بركان الغضب .. المنحرفون .. المخربون .. الوجه المدمر .. العيون النارية .. صرخة الشيطان .. وكر الأشباح .. قوة الانتقام .. السيف الملعون .. المشاجرة الكبرى .. عصابة العنكبوت .. التحدي الرهيب .. الرغبة الملتهبة.. المرأة و الكرباج .. القتلة .. و أفتح الراديو فأسمع صراخ الديسكو و موسيقى نحاسية .. تصك الأذن و غناء أشبه بالتشنجات .. و في المسرح لا أرى في الصفوف الأولى إلا تجار مخدرات و باعة كاوتش و تجار شنطة و سماسرة عملة و لا أرى من الفنون المعروضة إلا ما يرضي مزاج هؤلاء من نكات بذيئة ..
ما أسرع ما تطورنا .. فإذا نقلت مؤشر الراديو بين المحطات سمعتها تشتم بعضها البعض .. و سمعت قذائف الاتهام بالخيانة يتبادلها الإخوة في فحش و إسفاف .. و لا أرى جارة إلا و هي في حرب مع جارتها .. فإذا فتحت الصحف .. طالعتني أعمدة طويلة عن التلوث و الإهاب .. و خطف طائرات وتفجير السيارات الملغومة و اندلاع الحوب و المجاعات و أزمة الطاقة وأزمة الغذاء و ارتفاع الدولار و هبوط الجنيه و التحريض على الإضراب و الترويج العلني للفتن .. الإشادة بالتخريب و الحض على الفوضى .. و في الشارع تدفعني الاكتاف و أطالع المحجبات و المنقبات و العاريات على مقعد واحد في أوتوبيس .. و أرى الوجوه هضيمة شاحبة فيها غل و كمد .. و أرى النظرات متوترة و الحركات عصبية .. و أرى الكل يهرول .. و كأنما ينزل على ظهور الجميع كرباج خفي .. و أخرج من زحام إلى زحام ..
وأمام الفاترينات أرى طوابير و عيونا جاحظة تلتهم المعروضات في نهم و شبق . .
في القاهرة ألف مسجد .. و لكن لا أرى فيها طمأنينة الإيمان التي كنت أراها في الأربعينات و الثلاثينات ..
ماذا جرى للدنيا ؟ و في أي زمن نعيش ؟هذا زمان الضنك يا سادة. برغم العلم والإختراعات والفيديو والتليفزيون والنزول على القمر وإختراق الفضاء وتحطيم الذرة وجراحة الليزر وزرع الأجنة والهندسة الوراثية وعجائب الكمبيوتر .. لقد تقدمنا .. كسبنا الكثير هذا صحيح .. لكن ما خسرناه كان أكثر !!
خسرنا النبل والإنسانية والمحبة والوداعة والبساطة والشهامة والجمال والأناقة والنظافة . .
أين شجاعة أجدادنا الذين كانوا يلتقون وجهاً لوجه وسيفاً لسيف من نذالة وخسة الأحفاد الذين يرسل الواحد منهم للآخر طرداً ملغوماً لينفجر فى وجهه أو فى وجه السكرتير البريء الذى يصادف أن يكون أول من يفتح الطرد ..
وهذا الجبان الآخر الذى يزرع قنبلة فى طائرة لتنفجر فى الجو وتقتل أطفالاً ونساءً وشيوخاً من جنسيات لا يعرفها وليس بينه وبينهم عداء ..
ثم يدعي بعد ذلك أنه بطل وأنه صاحب قضية ثم يجد جبناء آخرين يدافعون عنه فى الصحف ويصفونه بأنه مكافح ومناضل ..
في أي زمان نعيش ؟ لقد قرأت بعيني فى الصحف من يكتب ليسمي هزيمة 1967 نصراً ، وقرأت فى عام 1973 من كتب ليسمي العبور والإنتصار هزيمة .. وكأنما أصبح قلب الحقائق فصاحة والتزوير بلاغة يتباهى بها صاحبها ..
أين زمان الحياء ؟ لقد وقعنا نحن الدول الصغرى النامية فى الشباك العنكبوتية للماكرين الكبار .. وهم قد وضعوا الكلام فى أفواهنا فأصبحنا نتكلم كما يريدون ونقتل من يريدون أن نقتل ونحارب من يريدون أن نحارب ونظن أنفسنا أحراراً ننفذ مشيئتنا وما ننفذ في الحقيقة إلا مشيئتهم .. ومشيئتهم هي الفساد والإفساد بكل السبل .. وبأيدينا لا بأيديهم !!
ونحن نوفر لهم الدم والمال وسوء السمعة فنقوم بقتل أنفسنا بدلاً منهم وتمزيق وحدتنا بدلاً منهم .. تركوا لنا المهمة القذرة لنؤديها .. ونحن نؤديها بنشاط .. بل نتنافس على تأديتها .. أنا لا أتهم أحداً.. فنحن جميعاً مُتَهَمون .. نحن صناع هذا الزمن .. والإعتراف بالحقيقة هو الأمل فى إصلاح المسار.
أصلح نفسي وأصلح نفسك ويصلح الكبار أنفسهم ويجد الجبناء أنفسهم معزولين مُحاصَرين مُحتقَرين لا يعبأ بهم أحد ولا يسمع لهم أحد ..
و ربما كان عزاؤنا أن البلاء شامل و المصيبة عامة .. فهل لندن اليوم هي لندن الثلاثينات و هل باريس اليوم هي باريس الثلاثينات .. إن التدهور شمل الجيل الثاني في أوربا و إنجلترا و أمريكا .. فلم يخرج هذا الجيل قمما تضاهي بيتهوفن و شوبان و فاجنر وشابلن بل خرج الخنافس و ألفيس بريسلى و مايكل جاكسون و بوى جورج و حفنة من أبطال الكاتيه و وصلت السيارات الملغومة إلى قلب الشانزليه و انفجرت القنابل في مطا هيثرو و انلق الرصاص على البابا و على الفاتيكان و تكررت حوادث الخطف في روما .. و لم يسلم مكان في أوربام الإرهاب و الفوضى و المخدرات و لم تسلم أيدي الكبار الذين يدبرون و يحيكون المؤامرات من أن تحرقها النار و المفاعل الذري الذي يجهزون فيه وقود البلوتونيوم لتحضير القنابل الهيدروجينية للترسنة الروسية .. وصل خطره إلى شواطئ السويد أطلق سحابة من الإشعاع القاتل ظللت أوربا بأسرها ..
لن يسلم الكبار من النار التي يشعلونها للصغار .. التهديد سوف يشمل الكل . و الضنك سوف يخيم على الكل ..
و حينما تغرق السفينة لن ينجو أحد .. الكبار سوف يسبقوننا إلى القاع . لا غالب و لا مغلوب . لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ربي . لكن برغم الصورة القاتمة لتداعي الحوادث فإن هناك جزراً صغيرة من الأمل في البحر المظلم الذي ارتفع فيه الموج .. جزراً من الخير .. ليست دولاً لكن أفراد وجماعات وأقليات هنا وهناك في كل مجتمع . أقليات نذرت نفسها للخير وللعمل والبناء . أفراد وقفوا حياتهم على القراءة والعلم والتأمل والتدبر والتفكر . وآخرون وقفوا حياتهم على التجريب في المعامل والمختبرات والمراصد ومخترعون يبحثون في حل طلاسم الطاقة..
وزراعيون يبحثون في استنباط الغذاء من الصحاري ومن قيعان البحار . وأطباء يسهرون لاكتشاف أسرار الصحة والمرض .. وأهل محبة ووداعة ينشرون المحبة بالقدوة وبالسلوكية المثلى وأهل بصيرة يقدمون نماذج عليا من الإيمان والعمل الصالح والحياة البارة. وأهل صدق لا تفسدهم رشوة ولا تبدلهم غواية . ومن أجل هؤلاء يحفظ الله أركان الدنيا ويُبقي عليها برغم كثرة المفاسد والإنحرافات ، لأنه من ظهور هؤلاء ومن أصلابهم تخرج الصفوة من الهداة والمصلحين الذين ينتقل بهم التاريخ من حال إلى حال .
و تبقى في الذهن صورة عجيبة لهذا الزمن العجيب الذي جمع بين أقصى الشر و أقصى الخير و بين أقصى العلم و أقصى الجهل و بين أقصى الوفرة و بين أقصى المجاعة و بين غاية الحقد و الرفض و بين تعدد وسائل الاستمتاع و يسر العيش و سهولة الإشباع و بين قمة المرح و بين حضيض الاكتئاب . ذلك الزمان الذي تجد فيه النفس فرصة اللانهائية لتنفع و تضر و ذلك في نظري أكبر ميزاته .. أنه زمان الفرص !
السعيد من حاول أن يغتنم لنفسه فرصة خير ومناسبة نفع وأن يجد لنفسه موطيء قدم بين الأقليات العاملة في صمت .. ولينسى مؤقتاً ماذا يكسب وماذا يخسر .. فإن الأغلبية إلى خسارة.. وأكثرهم خسارة هم الذين يبدون اليوم أكثر وجاهة وأكثر مكسباً .. وسوف يسحب التاريخ بساطه فيمحو آثارهم جميعاً ولن يبقى في قائمة الذكر الحسن إلّا أنفع الناس .
مقال ” إلى أين نسير ؟ ”
من كتاب ” السؤال الحائر “