يقول الحق تبارك وتعالى
“وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا”
كلماتٌ يسيرات، و لكنها تُزيح ضيقاً وزن الجبال من قلبٍ ثَقُلَت عليه الهموم و تراكمت عليه الغموم.
قالها الرَّحْمَنُِ لرسولِه (ﷺ) كي يُثَبِّت بها فؤادَه، و ليقتدي به المؤمنون في ثباته و صبره، لعلهم ينالوا هذه العناية الإلهية إذا وضعهم اللهُ بأعْيُنِه كما وضع أنبيائه و رسله.
و “بِأَعْيُنِنَا” هنا لا تعني مجرد الروءية، فالله على كل شيء شهيد، و هو بصيرٌ بالمؤمنين و الكافرين. و إنما تعني “العناية الإلهية” التي يخصُّ بها اللهُ عِبَادَه المؤمنين الصابرين.
و نجد في قصة موسى (ﷺ) العجب العجاب في هذا الأمر، ففيها يعلِّمُنا اللهُ كيف يحمي من بأعينه و إِن كان بين فكََّّيْ من أراد افتراسه! فلماذا أوحى اللهُ لاُمِّه بأن تلقيه في اليمّ عند ولادته؟ ألم يكن السبب هو الهروب من جنودِ فرعون الذي أمر بقتل كل مولودٍ من بني اسرائيل؟ و لمّا ألقتهُ كما أمرها الله، من التَقَطَهُ؟
“فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ”! (ا)
التقطه بيتُ من كان هو السبب الذي من أجله أُلقي في النهر هرباً من بطشه! قادَ اللهُ هذا الطفل الرضيع إلى “عرين الأسد” الذي يريد افتراسه، ثم هيئ الظروفَ المناسبة (كشفقة امرأة فرعون و إيمانها به فيما بعد، و رفضه المراضع كي تأتي أمه، و غير ذلك) كى يتربَّى و يترعرع هنيئاً في كنف عدوه! و لو تدبرنا كل هذا حق التدبُّر، لأدركنا عظمة كلمات و عُمق معاني قوله تعالى لموسى (ﷺ) حين كلَّمه:
“وَ لِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي” (
فالذي يضعه الله بأعينه قد نال الستر الأعظم و الحماية المطلقة التي لا تتأثر بما حولها من ظروفٍ مُعادية.
بل إِنَّ المؤمن – الذي بأعيُنِ الله – قد يحميه اللهُ من المصائب و كيد الأعداء بدون عِلْمِه! فقد يخطط لهُ الأعداءُ و ينصبون له الفخ و هو لا يعلم أن هوءلاء أعداءً، و لا ينتبه لما ينصبون له من فخ، إلا أنَّ الله يقيه سيئات ما مكروا دون أن يعلم أنه قد دخل عرين السباع المفترسة و خرج منه سالماً! و نجد كذلك في قصة موسى (ﷺ) مثلاً من هذا القبيل:
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ • وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ • وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ
ففرعون قد همّ بالبطش بموسى و قَتْلِه، و استعاذ موسى (ﷺ) بالله، فسخَّرَ اللهُ لموسى رجلاً من آل فرعون، أدخلَ في قلبه الإيمان فآمن بما جاء به، ليدافع عن موسى و يثني فرعون عن ما كان يهمُّ به. و لَم يُخبرُنا عز و جل أن موسى عليه السلام كان على علمٍ بهذا الرجل أو بما قام به من دفاعٍ عنه داخل القصر الفرعوني.
بل إِنَّ اللهَ قد يُسخر من الأدوات البسيطة و الضعيفة ما يحمي به عباده من الطامَّات الكبرى. أدواتٌ قد يسخر منها الظالمون للعباد، فإذا بتلك الأدوات تنجي الذين بأعيُن ربهم، و تملأُ قلوبَ ظالميهم غيظاً و ندماً جزاءً على ظلمهم. و نجد في كتابِ الله درساً رائعاً في قصة نوح (ﷺ)، حين طفح به الكيل من قَوْمِه، “فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ!” فكان الرَّد الالهي المُدَمِّر:
“فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ • وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ • وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ • تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ” (القمر:
لنقرأ هذه الكلمات مرة أخرى على مهلٍ و لِنَتَخيّل المشهد المهيب، ثم لنتأمّل قوله: “تجري بأعيننا”.
لو أن البشرية علمت اليوم بأن طوفانًا مدمراً كطوفان نوح سيأتي على الارض، كيف سيستعدّون له؟ لا شك ستُصنع سفنٌ لا قبل لنا بها، مزوّدةٌ بأحدث التقنيات التي تجعلها “غير قابلة للغرق”، بغواصات و طائرات للهروب منها إذا تعرضت للغرق رغم تقنياتها.
دائماً ما يُسمَّي الله سفينة نوح في كتابه “الفُلك” أو “السفينة”، إلا أنه هنا سمَّاها: “ذات ألواح (أي خشَب) و دُسر (أي مسامير)”، و كأنه تعالى يريد أن يُلفت نظرنا إلى مدى بساطتها و حقارتها بالنسبة للهول التي من أجله صُنِعت!
“وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ” (
و لما جاء أمر الله رأي الكفار “ذات الألواح و الدسر” التي تحمل نوح و من آمن معه “وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ” (هود: ٤٢). وربما في بداية الأمر كان لديهم أمل أنها لن تصمد فيكون مصير من عليها نفس مصيرهم، و بذلك لن يندموا على ما فعلوه مع نوح من سخرية و تكذيب، إذ أن هذه “الكارثة الطبيعية” قد شملت الجميع فلا علاقة لها بصدق نوحٍ عليه السلام أو كذبه! إلا أنها صمدت، و ما كانت لتصمُد لولا أنها كانت تجري “بأعين الله”. فكانت حماية الله لها مصدر حسرة و ندم للكفار و هم يغرقون، فكان صمودها و نجاة من عليها في حد ذاته “جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ”.
و هنا يدرك المؤمن الدرس المستفاد: أنه إِن كان بأعيُن الله فما عليه إلا أن يصبر على ما أمره الله، و لا يستصغر أي أداة أو وسيلة قد ينجيه اللهُ بها من محنته طالما هذه الوسيلة لا تخالف شرع الله. و إذا أضفنا الدروس المستفادة من قصة موسى (ﷺ)، فنقول أن من كان بأعيُنِ الله فهو ايضاً في حمايةٍ مطلقة لا تتأثر بما حولها من ظروف، بل و قد يكون اللهُ حاميهِ من مكائدٍ و مصائبٍ دون أن يدري و بطُرُقٍ لا علم له بها!
و لكن كيف لنا أن نكون بأعيُنِ الله؟ هو طريق واحد لا غير: الإقتداء بالأنبياء. الإقتداء بثباتهم على الحق و الصبر عليه؛ الاقتداء بحبهم لله و تعبُّدِهم له، و بحبهم للخير و بغضهم للشر:
“أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ” (