بقلم / د.رشا عبد العزيز
ظاهرة تأجير الهواء ليست بجديدة وليست مصرية ، فهي ظاهرة عالمية
ولكنها تزايدت فى الفترة الاخيرة بشكل كبير لارتباطها بالصناعة الإعلامية الرديئة منخفضة التكاليف، بعد تقلص عائدات الإعلان، وزيادة الضغوط على مالكي القنوات، التى لا تملك بعضها سوى عدد قليل من البرامج ، وباقى المساحات مدفوعة الأجر، وبالتالى تتحول المحطة الفضائية وخصوصا المحطات المتأزمة ماديا إلى فاترينة عرض، ما يتسبب فى انتهاك المعايير المهنية، ويدفع الجمهور ثمنا فادحا بسبب تلقيه محتوى غير خاضع للمراجعة العلمية او التقنية .
فيجب أن تنفذ هذه الفكرة وفقاً لمعايير مهنية والتي تتبع عالميا ، وأهمها تعريف المتلقى بأن المحتوى مدفوع الأجر، ولا بد أن تخضع الخدمات أو السلع لرقابة علمية وتقنية وادارية اذا اردنا ان تكون تلك الظاهرة بيزنس مربح لأصحابه وفي نفس الوقت مادة اعلامية مهنية محترمة نحترم فيها جمهور المشاهدين حتي نحقق التوازن بين ارضاء وجذب جمهور المشاهدين ومصلحة الشركات الوسيطة بين القنوات والمستأجر، خاصة مع المقابل المادي الذي يتلائم مع كل قناة تليفزيونية ومستواها، فالقنوات مستويات “A B C” ، و على هذا الأساس يتم تحديد المبلغ المالي المطلوب فالقنوات نفسها لا تتحمل أي أعباء مادية فمذيع البرنامج او المنتج هو من يدفع ثمن الوقت الذي يظهر فيه على الهواء، أو في برنامج مسجل، أو حتى كضيف.
والازمة الحقيقية لبيع الهواء هو عدم الفصل بين ما يمكن اعتباره محتوى إعلانى وما هو محتوى إعلامى، خاصة وأن ظهور البعض فى قنوات ذات مصداقية لدى الجماهير، يعطيهم المصداقية، وتكون النتيجة هى تعرض العديد من البسطاء لوقائع نصب بسبب وثوقهم فى من يظهرون على الشاشة رغم عدم استحقاقهم هذا الظهور.
بيع ساعات الهواء يحدث بأكثر من طريقة، إما داخل برامج تعمل بشكل منتظم ولكن تباع فيها بعض الفقرات وفقًا للعرض، أو عن طريق طلب من شخص بشراء وقت وتقديم برنامج خاص به ، و اكثر الطرق غرابة هو ما تقوم به بعض القنوات بإنتاج برامج وتقديمها، ولكن هذه البرامج لا تعمل إلا فى حالة أن يشترى الشخص مقابل “الهواء”.
من يشترى الهواء يريد الحصول على مقابل تجارى، يتمثل فى الترويج لسلعة ما عبر استغلال اسم المحطة، والثقة فى الإعلام والتليفزيون، حيث يسوق لمنتجات أو خدمات والازمة انها احيانا لا تتحلى بمعايير الجودة، أو بحثاً عن الشهرة وبناء شبكة علاقات اجتماعية وسياسية واسعة وهذا أغلب ما يحدث علي الساحة الاعلامية الان ، وهذا الأمر يتنافى مع أبسط قواعد العمل الإعلامى، وفى الغالب لا تلتزم البرامج إلا باشتراطات البث التى توزعها مدينة الإنتاج والمنطقة الحرة، ومعظم القنوات التى تبيع الوقت ليس لديها سياسات تحريرية.
و البرامج المدفوعة لا تحمل أى جوانب إيجابية أو مادية فعائدات الإعلان من المفترض أن تكون قادرة على تغطية النفقات، لأن القنوات مسموح لها ببيع المساحات الإعلانية، وليس التحريرية، وإذا قامت ببيعها فيجب أن يخضع ذلك لشرطين، أولهما أن تشغل نسبة قليلة جداً من إجمالى المساحة الإجمالية، والثانى أن توضح القناة للجمهور ماهيتها الإعلانية ، إلا أن أكثر ما يثير الخوف مما يحدث الان علي بعض القنوات من الفئة c ، فوضى إعلامية وتأجير مساحتها لمن يدفع، فمن يمتلك المال يستطيع أن يظهر على الشاشة بأمواله بعيداً عن القيم المتعارف عليها للعمل الإعلامى وأن هذا يتطلب وقفة تضمن عدم المتاجرة بالهواء وأن تقدم مذيعاً مؤهلاً يناقش موضوعات ذات قيمة.
وقد ظهرت مؤخرا حملة انتقادات وسخرية من محتوى برامج القنوات ذات التصنيف (c) او سلوك بعض مذيعيها او الضيوف ، وتساؤلات حول كيف يظهر أولئك المذيعين أو الضيوف على شاشة التلفزيون، والإجابة التي تخفى على كثير من المشاهدين هي “بسبب تأجير الهواء”.
غاب المضمون والهدف فأصبح إعلام بلا مشاهدين ..
والسؤال هنا لمذيعي تلك القنوات الباحثين عن الشهرة ما هو الهدف من هذه البرامج اذ فقدت معايير الاعلام الناجح وأهمها المشاهدة و عدد المشاهدين وبالتالي غاب الإعلامي الناجح ؟!
ومما لا شك فيه ان المستوي الاعلامي الهابط لتلك القنوات يضيع مجهود عدد لا بأس به من المذيعين ممن لديهم موهبة ولم يجدوا فرصة في قنوات A, B وللاسف الحسنة تخص والسيئة تعم فتواجد الفئة القليلة من الاعلاميين الشباب الموهوبين وسط هذه الفوضي يسئ اليهم ويصرف الجمهور عنهم ويجدون بعد فترة من تقديم برامجهم بانهم لم يقدموا شئ ذات قيمة لان قيمة الاعلامي الناجح تتحقق بالجمهور وليس فقط باللقب .
يتنوع جمهور شراء ساعات الهواء،
بين الطامعين فى مناصب سياسية، أو إدارية، والحالمين بمقعد فى البرلمان، وبالطبع المروجين لمنتجات أو خدمات بعينها، حيث يعتبر ظهورهم بوابة سريعة للوصول لما يريدونه ، ويقضى البعض عمرهم بحثًا عن الأضواء، يحلمون بأن تستقر صورتهم على شاشات التلفزيون وفى الميادين العامة، وربما تنتهى حياتهم بحثًا عن هذا الحلم دون أن يتحقق، ولكن هناك آخرون يختارون الاعتماد على طريقة أسهل، بالوصول لهذا الحلم عبر بوابة المال، وشراء ساعات على الهواء عبر قنوات التليفزيون المختلفة التى أصبح معظمها يعتمد على هذه الفكرة لدعم القناة ماديًا.
والعديد من القنوات ذات محتويات مختلفة تقوم بنفس الأمر فيشترى بعض الأشخاص أو المؤسسات مساحات زمنية من الفضائيات ومنها قنوات الأغاني والأفراح على سبيل المثال والتي تتيح إذاعة أغاني او مناسبات شخصية للأفراد مقابل مبلغ مالي متفق عليه ، دون وجود رقابة واضحة من المؤسسات الإعلامية المختصة بتنظيم الإعلام.
وتعتمد هذه البرامج علي وجود شخص يريد الظهور فيها مقابل مال، ولو اتخذنا قناة متخصصة فى الأفراح كمثال، فتقدم برنامجًا يستضيف خبراء التجميل ومصممى الأزياء ، ولكن البرنامج لا يظهر سوى إن وجد الضيف (المشتري) والذي يدفع مقابل ظهوره، ولو لم يظهر هذا المشترى لا يظهر البرنامج من الأصل!!
ونجد أن الأطباء على قمة المشترين لساعات الهواء، خاصة أن مردود ظهورهم فى البرامج يعود سريعًا علي عياداتهم، فما يدفعونه فى البرنامج يستردونه خلال ساعات قليلة من جمهور المشاهدين التى تتراكم على الفور في عياداتهم الخاصة ، وقد يستمر بث هذه البرامج الطبية والفقرات الطبية في أغلب البرامج على القنوات لفترات طويلة ويتم اعادتها، وبالتالي تضمن مستوى تأثير اكبر على ربات البيوت واللذين يتابعون هذه البرامج للحصول على وصفات طبية لأمراضهم ولهذا خصصت العديد من القنوات برامج لهم وحولتها إلى بوابات دعاية لهؤلاء الأطباء، وفى نفس الوقت بوابات تدر دخل إضافى على القناة، كما ظهرت قنوات متخصصة فى الصحة هدفها البحث عن المكسب فقط، وغالبًا يكون العاملين فى إعداد البرامج الخاصة بها مزيج بين المعدين والمسوقين وانتشر ذلك بشكل اكبر بين دكاترة التجميل والسمنة وتجميل الاسنان .
علما بان نقابة الأطباء اقرت انها غير مسئولة بأي حال من الأحوال عن تنظيم العلاقة بين الأطباء والقنوات التلفزيونية، وتمنع بشكل بات في لوائحها الداخلية، دفع أموال مقابل شراء البث المباشر على القنوات التلفزيونية، وانها قد قامت بايقاف اكثر من ٢٠ طبيبا في العام ٢٠١٩ كما تقدمت فيه بشكوى بالفعل للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي من جهته فرض عقوبات مادية على الوسائل الإعلامية والتي لم تكن كبيرة، وبالتالي استمرت الظاهرة.
بشكل عام، أن هذا الأمر يفتح الباب للدخلاء والذين ليس لهم علاقة بمهنة الطب من الأساس، والتي تسمح القنوات المتدنية المحتوي بظهورهم بهذه الصفة على الرغم من أنهم لا يحملون أي صفة طبية.
ما يجعل النقابة تتدخل بشكل عاجل بمجرد وصول شكوى ضد أحد الأطباء، وإثبات تورطه في دفع أموال للقناة مقابل الظهور خلال يومها البرامجي، خاصة وأن الأمر تسبب في الإضرار بسمعة الأطباء، مع ظهور بعض الأطباء غير ذوي الخبرة الكافية والذين تورطوا في إعلان وصفات طبية وادوية غير مرخصة تسببت في الإضرار بمستخدميها او النصب عليهم .
خاصة وان الجمهور الذى اعتاد على مشاهدة مثل هذه القنوات لا يبحث عن الثقة ولكن عن الحلم او الوهم الزائف مما لا يتيح له الحكم على سياسة القناة .
واخيرا لماذا لا نسعي ان نقدم مذيعاً مؤهلاً يناقش موضوعات ذات قيمة
فمن الممكن أن تخصص الفضائيات جزءاً محدوداً من وقتها للبيع لشركة لها اسم، وموثوق بها، أو لشخص مؤهل، لتقديم مواد إعلامية ذات قيمة وبشكل مهنى، ووضع شروط تقضى بإلغاء التعاقد مع المذيع إذا خرج عن القواعد المهنية وأخلاقيات العمل الإعلامى، وقد تتيح البرامج المدفوعة فرصاً لتقديم موضوعات جيدة على الشاشة وتظهر الشباب ممن لهم قبول وثقافة .
كما يجب تقنين البرامج المدفوعة، كما هو الحال بالنسبة للإعلانات فى البرامج ، ويجب ايضا منع بيع الهواء نهائيا للأشخاص بشكل مباشر، لأنها تطرح وجهة نظر المشترى وتفرضها على المشاهد، وقد يكون لديه أجندة او افكار معينة يسعي لنشرها قد يقتنع بها المشاهد وهي لا تتناسب معه او مع المجتمع فيتحقق الضرر المجتمعي ، فينبغى أن تتم عملية شراء المساحات من خلال وكالة إعلانية مرخصة لها معايير محترمة متفق عليها ، وكل ما يظهر على القناة لديه ختم القناة .
فنحن ليس لدينا قانون واضح يحمى المشاهدين، ويطبق عقوبات على المخالفين ، واذا كانت هناك صعوبة فيما يتعلق بالتدخل في السياسات المالية للقنوات فيجب وضع شروط تقضى بمحاسبة المذيع إذا خرج عن القواعد المهنية وأخلاقيات العمل الإعلامى والتدخل عند بث محتوى يتعارض مع القيم المتعارف عليها
فالمحطات الفضائية المهنية تعمل وفقاً لبيان مهم وواضح، وخريطة برامجية تخدم رؤيتها، فظاهرة بيع الهواء تعنى ببساطة الاعتداء على فكرة الخرائط البرامجية للقنوات، وسياستها التحريرية، فالأمر أشبه بتصريح لمن يملك القيمة المالية كى يبث أى محتوى يروق له
ونري على الجانب الآخر هناك قنوات تطبق معايير المهنية الاعلامية تقبل بيع ساعات هوائها ولكن وفقًا لمعايير دقيقة للغاية، وبحيث تضمن أن لا يخرج علي شاشتها إلا من يستحق الظهور وبالشكل اللائق بجماهيرها وفقا لخطة برامجية محترمة تعكس رؤية القناة مهما كان المدفوع، ولكن تظل هذه القنوات يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة مقارنة بالقنوات الغير مهنية الاخري.