متابعة عادل شلبى
أنا من أشد المؤمنين بمقولة أن التنمية البشرية لأية دولة تقوم على محورين رئيسيين؛ التعليم، والصحة … وعليه أثمن على الجهود الكبيرة للدولة المصرية، في السنوات الأخيرة، في مجال التنمية البشرية، التي بدأتها بتطوير التعليم، بكافة مراحله، من ناحية، والارتقاء بمستويات الخدمات الصحية، من ناحية أخرى، والذي يشهد طفرة كبيرة على مستوى الجمهورية.
واليوم سيدور حديثي حول محور التعليم، من منظوري الشخصي، خاصة فيما يخص وضع المدرس المصري، باعتباره أحد أعمدة، وركائز، العملية التعليمية، في ظل ما يشهده هذا المحور، حالياً، من نهضة كبرى، على يد وزير هُمام، يفكر خارج الصندوق، بمفاهيم متطورة، مواكبة لأحدث النظريات والتطبيقات العلمية في عالمنا المعاصر، وهو الدكتور الفاضل طارق شوقي، وزير التربية والتعليم، والتعليم الفني.
من وجهة نظري الشخصية، أصور العملية التعليمية بالمثلث، الذي تشكل المؤسسة التعليمية أول أضلاعه، بما فيها من فصول تعليمية، ومعامل للكيمياء والطبيعة والحاسبات الآلية، وحجرات الهوايات من رسم وموسيقى وتطريز وتدبير منزلي، إضافة إلى المكتبة والمسرح المدرسي، وصالات الرياضة وملاعبها المختلفة، وكل ما فيها من خدمات كالعيادة الطبية، وغرف النشاط الاجتماعي، وغيرهم. أما الضلع الثاني فهو المدرس، بينما الضلع الثالث هو المناهج الدراسية والامتحانات وأسلوب إدارة العملية التعليمية سواء داخل المدرسة أو في المنطقة التعليمية أو حتى على المستويات العليا في وزارة التربية والتعليم.
وباعتبار أن المدرس أحد أضلاع المثلث، وعماد العملية التعليمية، ومحور حديثي اليوم، فسأذكر واقعة فارقة من يومياتي وأنا محافظ للأقصر، إذ كان برنامجي اليومي يبدأ في السادسة صباحاً بالمرور على المدينة للوقوف على مستويات النظام والنظافة بها، وفي السابعة والنصف، اختار أحد المدارس، عشوائياً، لتفقدها، بداية من طابور الصباح، والاستماع لمحتوى الكلمة الصباحية، والحقيقة، أنني انبهرت من براعة وفصاحة وسلامة لغة أبناء الأقصر، باختلاف أعمارهم، فشعرت وكأن الجينات التي تجري في دماء الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، ممتدة لكل أبناء هذا الإقليم. وفي أسبوعي الأول، وبعد طابور الصباح، وأثناء تفقد الفصول من الناحية التعليمية، هالني رؤية أحد المدرسين يرتدي الجلباب في الفصل، مبرراً ذلك بأنه الزي الرسمي في بلادنا، فأصدرت قراري، على الفور، بمنع ارتداء الجلباب في المدارس.
وعزمت، حينها، على تطوير العملية التعليمية في الأقصر، وبدأتها بالمدرس، فأنشأت مركزاً لتدريب المدرسين والإداريين، على استخدام الحاسب الآلي، ورغم ما واجه التنفيذ من معارضة شديدة، إلا أنه بتحفيز العاملين ببعض المزايا، استجاب الإداريين، لتلقي التدريبات، بل وأشادوا، بأهميتها، معبرين عن ذلك بلغة بسيطة، قائلين “إحنا مبسوطين علشان بنفهم الكمبيوتر زي ولادنا في البيت”. أما المدرسين فكانت استفادتهم أكبر، إذ شمل تدريبهم استخدام الحاسب الآلي، وتطبيقاته المتعددة، الواجب تبنيها في العملية التعليمية، كالباور بوينت، وكذلك استخدام شبكة الإنترنت للبحث والحصول على المعلومات، وكان تعليق أحد المدرسين “الحمد لله كده مفيش طالب يحضر الحصة وعنده معلومات أكثر مني لأنه عنده كمبيوتر في المنزل حصل من خلاله على معلومات إضافية”، كذلك تم تدريس موضوعات علم النفس، لتدريب المدرس على أسلوب التعامل مع الطلاب، وفقاً لاختلاف تفكيرهم وعاداتهم وقدراتهم الذهنية والاستيعابية.
وبتزويد المدارس بأجهزة الحاسب الآلي، وخدمة الإنترنت، بدأ المدرس في توجيه الطالب للاعتماد على نفسه بالقراءة، والبحث، سواء في المكتبة أو من خلال شبكة الإنترنت. ومع انتهاء الدورة التدريبية، التي امتدت لأربعة أسابيع، تلقى كل مدرس مكافأة لاجتيازه الدورة التدريبية، عبارة عن جهاز لاب توب، وزي رسمي، مكون من بدلتين، بمشتملاتهما، تأكيداً على أهمية هيئة المدرس بين تلاميذه، وضرورتها في لدعم دوره الكبير في العملية التعليمية. وهو ما نشأت عليه، شخصياً، في مدرسة بورسعيد الثانوية، حيث كان معلمينا، ووقار زيهم الرسمي، قدوة لنا.
لم تستمر هذه الدورات التدريبية، مع الأسف، بعد اندلاع أحداث 25 يناير، وما أعقبها من انفلات أمني، وتخبط في أجهزة الدولة، ومع ذلك لا أنسى الفرحة التي اعتلت وجوه خريجي الدفعة الأولى، من المركز، وحصولهم على الشهادات التقديرية، ومكافآتهم، التي أحسنوا استخدامها لصالح الطالب المصري، في تقديم المادة العلمية، ليكونوا النواة الأولى لإحداث طفرة نوعية في أساليب التعليم المتبعة في مدارس الأقصر … وظهر المدرس بمظهره الجديد، الذي يليق به، وبرسالته الجليلة، بما تيسر من إمكانات، بصورة أسعدت كل من رآها، وشاع في الأقصر مصطلح “المدرسين في النيو لوك”.
لقد واجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل معارضة عريضة عندما وجهت برفع أجور المعلمين، وتصدت لذلك بمقولتها الشهيرة “هؤلاء من علموكم … والآن يعلمون أبناءنا … ولا نستطيع أن نفيهم حقهم” … واليوم تتجه الدولة المصرية للاهتمام بالمعلم لرفع مستواه المادي، وتخفيف أعباؤه، بما يمكنه من التركيز في القيام بواجبه، ورسالته، على أكمل وجه. فأنا من المؤمنين بأن الاهتمام بالمدرس من شأنه دفع العملية التعليمية في مصر إلى مستوى متميز، فأي تعديل وتطوير للمناهج التعليمية، بما يواكب المتغيرات العالمية، لن يؤتي ثماره دون الارتكاز على مدرس واع، ومسلح بأعلى درجات الثقافة، والأدوات التكنولوجية القائم عليها العصر الحديث، أو العصر الرقمي، كما صار يعرف اليوم.