لواء دكتور/ سمير فرج
متابعة عادل شلبى
اعتدت زيارة مدينتي، الحبيبة، بورسعيد، ولم أنقطع عنها أبداً، خاصة في ذكرى وفاة والدتي ووالدي الغاليين، وفي هذه المرة، قررت قيادة سيارتي بنفسي، فلما لا؛ والطريق، الجديد، “30 يونيو”، أحد إنجازات شبكة الطرق الجديدة، في مصر، المنفذة استجابة لتوجيهات الرئيس السيسي، قد ضمنت وصولي لبورسعيد، في ساعتين، فقط، من منزلي في القاهرة الجديدة، على طريق ساحر، يضاهي طريق الأتوبان، السريع، في ألمانيا، بعدما كانت، ذات الرحلة، تستغرق، من قبل، 4 ساعات.
وعلى مشارف بورسعيد، الغالية، عند رأس العش، وكما اعتدت، طوال عمري، فتحت نافذة السيارة، لاستنشق هواءها النقي؛ فلطالما اشتاق لتلك النسائم، العطرة، المحملة بيود البحر، ورددت مقولة أهالي بورسعيد، “يجعلك عمار دايماً يا بورسعيد”. ثم دخلت المدينة، وانعطفت يساراً، إلى منطقة المقابر، المنظمة، ونزلت من السيارة، حاملاً مقعداً صغيراً، جلست عليه أمام قبر أمي، ساعة كاملة، أحدثها فيها عن أحوالي، وأستدعي، مع طيفها، ذكرياتي معها في طفولتي، وشبابي، ثم انتقلت إلى قبر والدي، لأعيد معه حديث ذكرياتنا، ومواقفنا، ولأشهده أنني اجتهدت، ما استطعت، أن أنفذ وصاياه لي، وأن أكون عند حسن ظنه بي.
ودعت والدي، على وعد بزيارة قريبة، وتوجهت لمكاني المفضل، في بورسعيد، منذ الطفولة، عند لسان ديليسبس، على مدخل قناة السويس، ذلك المكان الذي كنت أقضي فيه ساعات، طوال، جالساً فوق السور الحجري، ممدداً ساقاي على السور السلك، أمامه، وسارحاً بأفكاري، وأنا أستنشق هواء البحر، وأراقب السفن العملاقة، عند مدخل القناة، وفي يدي الذرة المشوية، أو الترمس والحمص، في أجمل متنزه لكل أهالي بورسعيد. وحتى هذه المرة، وصلت إلى آخر اللسان الطويل، وتحت قاعدة التمثال، الخالية منه، جلست بنفس الطريقة، أراقب قناة السويس.
كان تمثال ديليسبس قد تم وضعه، في هذا الموقع، تخليداً لصاحب فكرة إنشاء قناة السويس، التي قدمها، عام 1854، إلى سعيد باشا، والي مصر، فمنحه سعيد باشا، عقد امتياز، لحفر وتشغيل قناة السويس، لمدة 99 عاماً. استغرق حفر القناة 10 سنوات، بسواعد مليون عامل مصري، كان يتم تجميعهم من فلاحي مصر، بنظام السخرة، مات منهم أكثر من 120 ألف، نتيجة للجوع، والعطش، والأوبئة، حتى تم افتتاح القناة عام 1869، في حفل اسطوري، أرهق موازنة الدولة المصرية. وأثناء الحفل، اقترحت الإمبراطورة الفرنسية، أوجيني، أن يقوم النحات الفرنسي، بارتولدي، بعمل تمثال، يوضع على مدخل قناة السويس، عبارة عن سيدة تحمل بيدها شعلة، إلا أن الخديوي رفض هذا التمثال، لتكاليفه الباهظة، فأهدته فرنسا إلى أمريكا، وهو تمثال الحرية، الشهير، الموجود، الآن، في نيويورك.
وبديلاً عن تمثال الحرية، صنعت فرنسا تمثالاً، آخر، لديليسبس، صاحب فكرة حفر القناة، ووضع على مدخل قناة السويس، وصار أحد معالم مدينة بورسعيد، ذلك اللسان الطويل، الذي يرتفع، في نهايته، تمثال ديليسبس، وأصبح، هذا اللسان، متنزهاً لكل أبناء بورسعيد، حتى إعلان، الرئيس عبد الناصر، تأميم قناة السويس، في يوليو 1956، الذي ردت عليه إنجلترا، وفرنسا، وإسرائيل، بالعدوان الثلاثي، على مصر، في أكتوبر 1956. بعد فشل العدوان الثلاثي، وانسحاب الإنجليز، والفرنسيين، من بورسعيد، يوم 23 ديسمبر، من نفس العام، التاريخ الذي صار ذكرى “عيد النصر”، قام أهالي بورسعيد، بإنزال تمثال ديليسبس، من على قاعدته، وتم تخزينه بمخازن هيئة قناة السويس، في بورفؤاد. وبعد 22 عاماً، من تلك الواقعة، تم إخراج التمثال، وترميمه بواسطة طاقم مصري، تحت إشراف المرمم الفرنسي، ميشيل ووتمان، حتى إعادته لهيئته التي كان عليها، في الماضي، وتم تسجيله في عداد الآثار الإسلامية والقبطية، في هيئة الآثار المصرية.
طافت بي كل هذه الذكريات وأنا جالس على لسان ديليسبس، ذلك المكان الذي لم أنقطع عنه، حتى خلال حرب الاستنزاف، ونظرت، طويلاً، إلى قاعدة التمثال الخاوية، التي يدور بشأنها، حالياً، حوار عميق، في بورسعيد، إذ تنادي طائفة من الأهالي، بضرورة عودة التمثال إلى مكانه الطبيعي، باعتباره جزء من تاريخ بورسعيد، وإنشاء قناة السويس، التي يقف وراءها ذلك الرجل، بعيداً عن الاتجاهات السياسية، وداعين لعودته، في احتفال كبير، يدعى إليه الرئيس الفرنسي، هذا العام، الذي يصادف مرور 150 عام على افتتاح القناة. بينما ترى مجموعة، أخرى، من أبناء بورسعيد، أن تمثال ديليسبس يرمز إلى الرجل الذي خدع خديوي مصر، وانتزع لنفسه حق امتياز القناة، لمدة 99 عاماً، تم خلالهم نهب ثروات مصر، وسخر أبناءها لحفر القناة، وأن عودة التمثال، إلى قاعدته، على مدخل القناة، إنما هو تخليد لذكرى المحتل الغاشم، لمصر، وليس لبورسعيد، فحسب، وترى تلك المجموعة، أن التمثال لابد وأن يستبدل بتمثال جديد، للفلاح المصري الأصيل، مرتدياً جلبابه، والمنديل المعصوب على رأسه، والعرق يتصبب على جبينه، وبيده الفأس الذي حفر به القناة، في رسالة للعالم أجمع بأنه الأحق، بتخليد ذكراه.
واستقللت سيارتي، عائداً للقاهرة، مكتفياً بغذاء روحي من نسيم بورسعيد، وذكرياتها، دون تناول وجبتي المفضلة، في أحد مطاعمها، الشهيرة، للأسماك، تاركاً أهلي في بورسعيد بين مؤيد، ومعارض، لعودة تمثال ديليسبس إلى قاعدته، أو وضع تمثال جديد للفلاح المصري، فكل فئة تتشبث برأيها، المدعوم بأسباب وجيهة … واحتفظت برأيي لنفسي في هذا الجدل الدائر.