بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري .المحامي
بينما نحن نشاهد قوات القرد التركي ومرتزقته وميلشياته في ليبيا وهي تتلقى الضربات القاتلة الواحدة تلو الأخرى .. تارة على يد خير أجناد الأرض ، وتارة أخرى على يد الجيش الليبي البطل .. وبدلا من أن يضمد جراحه ، ويدفن قتلاه ، ويلملم أشياءه ، ويستكمل انسحابه ، ثم يتوارى عن المشهد ، ويختفي إلى الأبد .. فإذا بهذا التركي البجم يفاجئ العالم كله بقراره الغبي المثير للجدل .. بتحويل ذلك الصرح التاريخي لكنيسة آيا صوفيا في مدينة إسطنبول إلى مسجد ….. متصورا أنه أضاف لنفسه شيئا مفيدا ، أو قاصدا مغازلة أتباعه ليضمن وقوفهم خلفه ، كي يستمر في موقعه ، ويطول أمد بقائه ، وربما أراد بفعلته هذه دغدغة مشاعر الخونة والمغيبين .. والجهلة وأنصاف المتعلمين من العرب الذين يعتبرونه خليفة المسلمين ، وهو لا يعلم أن قراره هذا ينم عن جهله ، ويفضح مدى تخلفه ، ويكشف عن انحرافه ، ويؤكد على تعصبه وإرهابه .. ذلك لأن هذا القرار يعتبر بكافة المقاييس المعروفة .. قرارا جائرا ، وعدوانا صارخا على تراث الحضارات القديمة .. ويعد جريمة كبرى ضد الإنسانية ، وانتهاكا سافرا للأعراف الدولية … والأهم مما سبق أن هذا القرار يعتبر مخالفة جسيمة لثوابت الشريعة الإسلامية ، وخروجا فاضحا على السنة المحمدية ، وتجاهلا كاملا للوثيقة العمرية .. لكننا لو أمعنا النظر قليلا في جرائمه المعروفة على مستوى الوطن العربي .. وعلاقته المفضوحة مع الكيان الصهيوني لتأكدنا بما لا يدع مجالا للشك من كذب ادعاءاته وزيف إسلامه .. وعلى أي الحالات السابقة أقول إن يجرم هذا القرد العثماني المتخلف فقد أجرم أجدادا له من قبل ، ثم سقطوا شر سقطة ، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة وهذا هو المصير الحتمي الذي ينتظر هذا القرد التركي .. لكن حتى تتضح لنا ملامح الفكرة ، وتكتمل منها الفائدة .. من المهم لنا أن نعرف معنى كلمة (آيا) .. ثم ننظر لنرى من تكون (صوفيا) .. ومن ثم نسلط الضوء على صرح الكنيسة ذاتها .. لكن قبل هذا كله علينا أن نلقي نظرة سريعة على المراحل التاريخية التي مرت بها مدينة إسطنبول .. ومن ثم نحاول معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت واقعة تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد تحظى بما تابعناه من أصداء دولية .
من المعروف أن مدينة إسطنبول التي تقع على مضيق البوسفور والذي يعتبر جغرافيا النقطة الفاصلة بين قارتي آسيا وأوروبا .. كانت في الأصل عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي كان يطلق عليها (الدولة البيزنطية) .. وهي القوى العظمى الوحيدة في التاريخ التي خضع لها معظم سكان العالم على مدى قرون طويلة .. في العصور الوسطى …. حيث اطلق على هذه المدينة في بادئ الأمر اسم (القسطنطينية) نسبة إلى مؤسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول لتكون مقرا لحكمه ، ثم تغير اسمها لتصبح (بيزنطة) في عصر قسطنطين الثاني الذي أعلن المسيحية دينا للإمبراطورية الرومانية الشرقية على المذهب الأرثوذكسي … في ذلك الوقت كانت مصر المسيحية الأرثوذكسية ترزح تحت نير الاحتلال الروماني (رومانيا الغربية المسيحية الكاثوليكية) حيث ولدت الطفلة (صوفيا) وترعرعت وسط أسرة مصرية بسيطة كانت تدين بالوثنية .. لكن صوفيا ما أن شبت عن الطوق اكتسبت قدرا من الحكمة ، واكتشفت مبكرا زيف هذه العقيدة .. فآمنت بالديانة المسيحية ، وتحلت بتعاليمها السمحة على المذهب الأرثوذكسي … الذي كان عليه الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري … ومع زهدها في الدنيا ، وتفرغها للعبادة حسن إيمانها .. حتى أصبح لها مريدين ، وظهرت لها كرامات بين المصريين .. فأحبوها والتفوا حولها ، وكانوا دائما ما يلجؤون إليها وقت الشدة ، يلتمسون منها العون ، ويقتبسون منها البركة .. ما حدا بالحاكم الروماني المحتل أن يأمر بقطع رأسها … فأخذ محبوها جسدها الطاهر ، وذاع صيتها في العالم كله ….. إلى أن سمع بقصتها الإمبراطور قسطنطين الثاني .. وعرف مكانتها ، فأمر بنقل رفاتها ، إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية ، وأعاد دفنها في مدينة بيزنطة .. وتكريما لها بنى على ضريحها صرحا معماريا مهيبا ليس له مثيل .. ليجعله أكبر كنيسة في العالم القديم ، وتيمنا بهذه القديسة المصرية الشهيدة أسمى الكنيسة على اسمها “كنيسة آيا صوفيا” أي كنيسة القديسة صوفيا إذن كلمة (آيا) تعني القديسة لتصبح بعد ذلك كاتدرائية آيا صوفيا مقرا لبطريركية الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي كان يحج إليها أتباع المذهب الأرثوذكسي من جميع أنحاء العالم على مدى أكثر من ألف عام .. ولذلك اكتسبت هذه الكنيسة المهابة الفريدة من نوعها .. تلك المكانة الدينية الكبيرة في العالم كله وهنا لابد لنا كمصريين من وقفة وطنية مهمة … حيث يحق لنا أن نفخر ونعتز في الحاضر والمستقبل بالقديسة المصرية الشهيدة صوفيا .. المولودة في ميت رهينة (البدرشين حاليا) … ولنا أن نفخر أيضا بالسيدة هاجر أم إسماعيل أبو العرب المولودة في مدينة طيبة (الأقصر حاليا) .. كما لنا أن نفخر كذلك أيضا بأم المؤمنين مارية القبطية … المولودة في مدينة تل العمارنة (المنيا حاليا) .. وهكذا دائما وأبدا ما تكون المرأة المصرية ، وخصوصا الصعيدية .. نبراسا للإنسانية ، ومصدر الهام للبشرية ، ومثار فخر واعتزاز للأمة المصرية منذ بدء الخليقة ، إلى قيام الساعة .
واستكمالا لما سردناه عن مدينة إسطنبول أقول مرت هذه المدينة تحت اسم (بيزنطة) بمراحل تاريخية عديدة على مدى قرون طويلة … إلى أن شاخت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (الدولة البيزنطية) .. فكان الغزو العثماني الهمجي على يد السفاح محمد الثاني الذي احتل مدينة بيزنطة رافعا راية الإسلام وهو منه براء .. وحول كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد .. ناسيا أو متناسيا أن سينا عمر بن الخطاب أعدل أهل الأرض .. بعدما فتح مدينة القدس أبى أن يصلي في كنسية القيامة قائلا : “ما كان عمر ليصلي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعده فيقولون هنا صلى عمر ويتخذونها مسجدا” .. فما بالك بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد على يد السفاح التركي محمد الثاني .. بعدما قتل رهبانها ، وشوه معالمها ، واستولى على كنوزها …. ثم استباح مدينة بيزنطة من أولها إلى آخرها … وسفك دماء أبنائها ، ودمر شواهدها ، ونهب ثرواتها … وهكذا كان يفعل العثمانيون بالبلاد التي كانوا يحتلونها قديما … وما زال أحفادهم يفعلون ذلك حاليا في كل من سوريا وليبيا …. إذن الإمبراطورية العثمانية لم تقم بما قامت به حبا في نشر الإسلام ، أو رغبة في إعلاء راية الإيمان .. كما تدعي كذبا وزورا وبهتانا .. بل فعلت ما فعلت رغبة في التوسع ، وحبا في التملك ، وبسط النفوذ بالقتل ، والنهب ، والسطو ، والسلب ، وإذلال الشعوب .. وهكذا كما رأينا احتل العثمانيون مدينة بيزنطة ، واتخذوها عاصمة للإمبراطورية العثمانية وأطلقوا عليها اسم (إسلامبول) .. ثم سميت بعد ذلك (الباب العالي) ثم (الأستانة) .. ثم أطلق عليها في وقت لاحق اسم (استانبول) …. وظلت تحمل هذا الاسم إلى أن أطلق عليها اسم (إسطنبول) بعد سقوط الخلافة العثمانية … وقيام الجمهورية التركية المستقلة بملامحها الحالية … نحن إذن بصدد الكلام عن مدينة واحدة تحمل أسماء متعددة ، مرت بمراحل تاريخية طويلة ، وشهدت أوضاعا سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة …. لكن مع تعاقب الأزمان ، وتبدل الأحوال … ترهلت هذه الإمبراطورية الدموية المتخلفة ، ذات الصبغة الدينية المزيفة .. التي حكمت بالحديد والنار ، والتجارة بالأديان أجزاء واسعة من العالم الإسلامي المعاصر لمدة أربعة قرون .. ومع انتشار المفاسد ، وكثرة المظالم .. انهارت تلك الإمبراطورية بعدما دارت عليها الدوائر من كل ناحية .. وذهبت إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليها .. فقام مصطفى كمال أتاتورك البطل القومي ، قائد حرب الاستقلال ، ومؤسس تركيا الحديثة .. بإلغاء نظام الخلافة ، وأقام على أنقاضها جمهورية تركيا المعاصرة .. والتي أصبحت كما أراد دولة علمانية أوروبية الطابع والقوانين والهوى .. وجعل من مدينة (أنقرة) التي تقع وسط البلاد عاصمة لها بدلا من مدينة (إسطنبول) .. لكن الحقيقة المجردة من الشطط والهوى .. لولا الزعيم مصطفى كمال أتاتورك لما كانت تركيا التي نراها اليوم .. فهو الذي طور وجهها الحضاري .. ووضع لها دستورا جديدا يليق بها ، يقوم على مبدأ الفصل بين الدين والدولة … وأرسى القواعد العامة للحرية والعدالة والمساواة .. واهتم بحقوق المرأة والطفولة .. وأعلى من قيم الحداثة والهوية والمواطنة .. وحول صرح كنيسة آيا صوفيا من مسجد إلى متحف ومزار سياحي .. يُدخل مليارات الدولارات لخزينة الدولة .. حيث يرتاده أكثر من ثلاثة ملايين سائح في السنة الواحدة .
واستمر الحال بكنيسة آيا صوفيا على ما كانت عليه منذ عشرينيات القرن الماضي .. إلى أن جاء إلى سدة الحكم في تركيا .. قرد حقير يسير على خطى أسلافه القدامة ، من السفاحين والقتلة ، والمتآمرين والسفلة … الذين قتلوا عشرات الملايين في شتى بقاع الأرض بلا ذنب اقترفوه سوى انهم دافعوا عن أوطانهم في مواجهة محتل غاشم حقير … وما الغزو العثماني لمصر (حاضرة الخلافة العباسية آخر خلافة عربية) بقيادة السفاح سليم الأول الذي قتل سلطانها البطل طومان باى ، ونهب ثرواتها ، ودمر مقدراتها إلا مثالا حيا على ما تقدم .. أقول جاء إلى سدة الحكم في تركيا هذا القرد الحقير ليرتكب منذ وصوله إلى السلطة من الجرائم البشعة داخل بلاده وخارجها ما لا يعد ولا يحصى ولما تبددت أحلامه المستحيلة في استعادة الإمبراطورية العثمانية البغيضة … أراد بمنتهى الجهل والتخلف والغطرسة أن يثبت وجوده فأصدر قرارا في يوم وليلة .. بتحويل صرح كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد .. ولسان حاله يقول للعالم كله ها أنا ذا … فانهالت عليه الإدانات .. وصُبت عليه اللعنات ..
وتوالت عليه التهديدات من كافة الهيئات والدول والمنظمات على مستوى العالم كله شرقه وغربه .. لكن الغريب أن هذا القرد التركي لم يفهم الطبيعة الاستثنائية لهذا الصرح التاريخي ولم يقدر النتائج السلبية لقراره الغبي ولذلك أتساءل فأقول ماذا لو استغل الكيان الصهيوني هذه الجريمة ، واتخذ منها ذريعة فأعلن تحويل المسجد الأقصى إلى هيكل سليمان المزعوم وذلك من باب القياس على ما اقترفه هذا الجاهل الغبي المغرور الذي يعيش في أوهام الماضي ، ويعاني من أحلام اليقظة ؟ .