محتوى الرسالة:
قراءة فى كتاب لفتة الكبد في نصيحة الولد
مؤلف الكتاب هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري
استهل ابن الجوزى الكتاب بذكر السبب الباعث على كتابة هذه الوصية وهى أنه لما علم تقاصر ولده عن طلب العلم كتب له الرسالة حتى يجتهد فى طلب العلم وفى هذا قال فى المقدمة:
“فإنني لما عرفت شرف النكاح وطلب الأولاد ختمت ختمة وسألت الله تعالى أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقنيهم ، فكانوا خمسة ذكور وخمس إناث، فمات من الإناث اثنتان، ومن الذكور أربعة فلم يبق من الذكور سوى ولدي أبي القاسم فسألت الله تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح، وأن يبلغ به المنى الناجح
ثم رأيت منه نوع توان عن الجد في طلب العلم، فكتبت له هذه الرسالة، أحثه بها وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدلة على الالتجاء إلى الموفق- سبحانه وتعالى- مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفق ، ولا مرشد لمن أضل ، لكن قد قال تعالى” وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر “
وفد بدأ الوصايا لابنه فطالبه بالتفكير وإعمال العقل فقال:
“اعلم يا بني- وفقك الله للصواب أنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلا ليعمل بمقتضاه، فاستحضر عقلك، وأعيي فكرك، و اخل بنفسك، تعلم بالدليل أنك مخلوق مكلف، وأن عليك فرائض أنت مطالب بها، وأن الملكين يحصيان ألفاظك وأن أنفاس الحي خطاه إلى أجله، ومقدار اللبث في الدنيا قليل والحبس في القبور طويل، والعذاب على موافقة الهوى وبيل فأين لذة أمس؟ رحلت وأبقت ندما وأين شهوة النفس؟ كم نكست رأسا وأزلت قدما وما سعد من سعد إلا بخلاف هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دنياه فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد أين لذة هؤلاء، وأين تعب أولئك؟ بقي الثواب الجزيل والذكر الجميل، والقالة القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين ، وكأنه ما جاع من جاع ولا شبع من تشبع والكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة، فانتبه واتعب لنفسك”
وفى الفقرة عدة أخطاء :
الأول قوله أنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلا ليعمل بمقتضاه فالعقل موجود فى كل المخلوقات وبه تؤمن وتسبح لله عدا كفار الناس من الإنس والجن كما قال تعالى” ألم تر أن الله يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب”
الثانى قوله الحبس في القبور طويل فلا يوجد حبس فى القبور لأن الموتى فى الجنة والنار الموعودتين فى السماء كما قال تعالى ” وفى السماء ءزقكم وما توعدون”
فالموجود فى القبور هى الأجساد التى تغنى وتتحول لتراب ولو كانت تنعم أو تعذب فى القبر لبقى الجسد سليما
ثم وضح ابن الجوزى لولده أن المطلوب العلم بالحق والعمل به فقال :
“واعلم أن أداء الفرائض واجتناب المحارم لازم، فمتى تعدى الإنسان فالنار النار ثم اعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين ، ثم الفضائل تتفاوت ، فمن الناس من يرى الفضائل الزهد في الدنيا، ومنهم من يراها التشاغل بالتعبد، وعلى الحقيقة فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل، فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية المقصودة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وليس كل ما يراد مرادا، ولا كل طالب واجدا، ولكن على العبد الاجتهاد، وكل ميسر لما خلق له والله المستعان
ثم بين الواجبات والفضائل وبين أولها الاستدلال على وجود الله بقانون الصنعة أى لكل شىء مصنوع صانع فقال:
“وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة خصوصا في جسد علم أنه لابد للصنعة من صانع وللمبنى من بان ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكبر الدلائل القرآن الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله فإذا ثبت عنده وجود الخالق- جل وعلا- وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تسليم عنانه إلى الشرع، فمتى لم يفعل دل على خلل في اعتقاده”
ومن ثم فأول الواجب المكلف معرفة وجود الله بالبراهين ثم الإيمان بالوحى المنزل وأما ما يتلو هذا فهو الأحكام العملية التى يجب تنفيذها أى طاعتها مثل الوضوء والصلاة وبعد معرفة الواجبات يتلو ذلك معرفة الفضائل وهى المسائل التى فيها خيارين أحدهما أفضل من الثانى للعمل بالأفضل وفى هذا قال :
“ثم يجب عليه أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة والزكاة – إن كان له مال!- والحج وغير ذلك من الواجبات؟ فإذا عرف قدر الواجب قام به فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبمعرفة سير أصحابه والعلماء بعدهم ليتخير مرتبة الأعلى فالأعلى، ولابد من معرفة ما يقيم به لسانه من النحو، ومعرفة طرف مستعمل من اللغة
والفقه أصل العلوم، والتذكير حلواؤها وأعمها نفعا، وقد رتبت في هذه المذكورات من التصانيف ما يغني عن كل ما سبق من تصانيف القدماء وغيرها بحمد الله ومنه، فأغنيتك عن تطلب الكتب وجمع الهمم للتصنيف وما تقف همة إلا لحناستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون”
وفى الفقرة يبين لولده ما عليه تعلمه من العلوم القرآن والسير والنحو واللغة والفقه والخطأ هنا هو تعلم النحو واللغة فهذا ما لا يوجد عليه نص لأن تلك العلوم أى الجهالات من أكبر أسباب الخلافات بين الناس فبسببها كانت اختلافات المفسرين والفقهاء وبدلا من ان يفسر الوحى بالوحى فسروه بجهالات كفار العرب
وقد بين لولده أن همة الإنسان تضعف أحيانا وعندما يعرف الإنسان هذا الضعف عليه أن يلجأ لطاعة الله حتى تقوى همته وفى هذا قال :
وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثت سارت ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم، أو كسلا فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرا إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته،فمن الذي أقبل عليه فلم يرد كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة؟ أو حظى بغرض من أغراضه؟”
ثم يقص الأب على ابنه ما حدث له فى صغره من الشدة فى طلب العلم فيقول:
“وانظر يا بني! إلى نفسك عند الحدود، فتلمح كيف حفظك لها، فإنه من راعى روعي، ومن أهمل ترك وإني لأذكر لك بعض أحوالي لعلك تنظر إلى اجتهادي وتسأل الموفق لي فإن أكثر الإنعام علي لم يكن بكسبي، وإنما هو من تدبير اللطيف بي فإني أذكر نفسي ولي همة عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين وأنا قرين الصبيان الكبار، قد رزقت عقلا وافرا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبت في الطريق مع الصبيان قط ولا ضحكت ضحكا خارجا حتى أني كنت ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع فلا أتخير حلقة مشعبة، بل أطلب المحدث فيتحدث باليسير، فأحفظ جميع ما أسمعه وأذهب إلى البيت فأكتبه”
وما ذكره الرجل هنا فيه أخطاء هى :
الأول حرمان الطفل من اللعب فلا ينبغى حرمان طفل من اللعب وهو ممارسة بعض الرياضات البدنية والعقلية
الثانى أن الطفل له عقل يفوق عقول الشيوخ ويقصد بها كبار السن وبالقطع الطفل عقله لا يمكن أن يفوق عقل الشاب لأنه يتكون بالتدريج عنده ويكون بعد مرحلة بلوغ سن النكاح كما قال تعالى “وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم”
وما يتميز به الطفل هو قوة الحافظة فقط فهو يحفظ وإن كان لا يفهم وهو ما اعترف به فى الفقرة التالية بقوله “فأسمعني المسند وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يراد مني” والفقرة تقول:
“ولقد وفق لي شيخنا أبي الفضل بن ناصر- رحمه الله – وكان يحملني الشيوخ فأسمعني المسند وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، فناولني ثبتها، ولازمته إلى أن توفى- رحمه الله-، فنلت به معرفة الحديث والنقل ولقد كان الصبيان ينزلون إلى دجلة ويتفرجون على الجسر وأنا في زمن الصغر آخذ جزءا وأقعد حجزة من الناس إلى جانب الرقة فأتشاغل بالعلم”
ومن الفقرة السابقة نعرف أن المعلم يكون السبب المباشر فى اهتمام الطالب بالعلم إذا اهتم به اهتماما مباشرا ثم بين الوالد ما يظن أنه اعانه على الدراسة فذكر التالى:
“ثم ألهمت الزهد فسردت الصوم وتشاغلت بالتقلل من الطعام وألزمت نفسي الصبر فاستمرت وشمرت ولازمت وعالجت السهر، ولم أقنع بفن من العلوم، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث، واتبع الزهاد، ثم قرأت اللغة ولم أترك أحدا ممن يروي ويعظ، ولا غريبا يقدم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، وكنت إذا عرض لي أمران أقدم في أغلب الأحوال حق الحق فأحسن الله تدبيري وتربيتي وأجراني على ما هو الأصلح لي ودفع عني الأعداء والحساد ومن يكيدني ، هيأ لي أسباب العلم، وبعث إلي الكتب من حيث لا أحتسب ورزقني الفهم وسرعة الحفظ والخط وجودة التصنيف ولم يعوزني شيئا من الدنيا، بل ساق إلي من الرزق مقدار الكفاية وأزيد، ووضع لي القبول في قلوب الخلق فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحته، وقد أسلم على يدي نحو مائتين من أهل الذمة ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعت أكثر من عشرين ألف سالف مما يتعاناه الجهال”
وما ذكره من الزهد وقلة الطعام هو أمر يخالف كلام الله حيث قال تعالى “قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق” وهو ما فهمه المسلمون بقولهم نصيحة أحد الناس”ولا تنس نصيبك من الدنيا”
وبقية النصائح مقبولة ثم قص عليه رحلاته إلى العلماء بطلب العلم جريا وجوعا فقال :
“ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل، وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي ولو شرحت أحوالي لطال الشرح وها أنا قد ترى ما آلت حالي اليه وأنا أجمعه في كلمة واحدة هي قوله تعالى “واتقوا الله ويعلمكم الله “
ويطالبه بحفظ الأوقات واغتنام اللحظات حتى يعوض ما فاته من العلوم ضاربا له الأمثال بالحكايات فقال:
“فانتبه يا بني لنفسك، وأندم على ما مضى من تفريطك واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك ، ما دامت فيه رطوبة؟ وأذكر ساعتك التي ضاعت فكفي بها عظة، وذهبت لذة الكسل فيها وفاتت مراتب الفضائل وقد كان السلف الصالح- رحمهم الله- يحبون جمع كل فضيلة ويبكون على فوت واحدة منها قال إبراهيم بن أدهم- رحمه الله- دخلنا على عابد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي فقال: ما اغبرتا في سبيل الله وبكى آخر، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: على يوم مضى ما صمته وعلى ليلة ذهبت ما قمتها
واعلم يا بني! أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تنبسط أنفاسا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم
وقد قال رجل لعامر بن عبد قيس قف أكلمك، فقال: أمسك الشمس وقعد قوم عند معروف- رحمه الله- فقال: أما تريدون أن تقوموا، فإن ملك الشمس يجرها لا يفتر وفي الحديث: “من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة” فانظر إلى مضيع الساعات كم يفوته من النخيل؟ وقد كان السلف يغتنمون اللحظات فكان كهمس – رحمه الله- يختم القرآن كل يوم وليلة ثلاث مرات وكان أربعون رجلا من السلف يصلون الصبح بوضوء العشاء وكانت رابعة العدوية تحيي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت هجعة خفيفة ثم قامت وقالت لنفسها: النوم في القبر طويل “
ما قاله ابن الجوزى بعضه فيه خبل وهو :
الأول أن كهمس كان يختم القرآن ثلاث مرات فى يوم وليلة وعدد آيات المصحف 6236 فلو أنه قرأ كل آية فى دقيقة لتطلب هذا أربعة أيام لأن اليوم1440 دقيقة وحتى لو قلنا ان كل ثلاث أيات فى دقيقة لتطلبت الثلاث مرات أربعة أيام فكيف كان يأكل أو بشرب أو ينام أو يريح عينيه ؟
الثانى صلاة الرجال صلاة الصبح بوضوء العشاء وهو ما يعنى أنهم مجانين لأنهم يمنعون أنفسهم من التبول والتبرز كما يمنعون انفسهم من النوم طول الليل وهو ما يخالف أنه لابد من النوم وقتا ولو قليلا كما قال تعالى ” قم الليل إلا قليلا”فيمرضون نتيجة هذا
الثالث رواية من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة وهو تخالف أن الثواب حسنات وليس نخلات فى قوله تعالى ” من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها”
وطالب الرجل ابنه بالاستعداد للآخرة بالأعمال فقال :
“ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة، فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج منها رأى مدة طويلة، وعلم أن اللبث في القبور طويل، فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة والنار علم أنه لا نهاية له فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا فرضنا ستين سنة مثلا فإنه يمضي منها ثلاثون سنة في النوم ونحو من خمس عشرة في الصبا، فإذا حسب الباقي كان أكثره الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرا، فبماذا تشتري الحياة الأبدية وإنما الثمن هذه الساعات؟”
وبين له أن ما سبق منه من تفريط لا يجب أن يمنعه من التوبة إلى الله وحكى له حكايات تأييدا لكلامه فقال :
“ولا يؤيسك يا بني من الخير ما مضى من التفريط، فإنه قد انتبه خلق كثير بعد الرقاد الطويل
فقد حدثني الشيخ أبو حكي عن قاضي القضاة الشيخ أبي الحسن الدامغاني- رحمه الله- قال : (كنت في صبوتي متشاغلا بالبطالة غير ملتفت إلى العلم، فأحضرني أبي أبو عبد الله – رحمه الله- تعالى وقال لي: يا بني ، لست أبقى لك أبدا، فخذ عشرين دينارا وافتح لك دكان خباز وتكسب، فقلت له: ما هذا الكلام؟ قال: فافتح دكان بزاز فقلت: كيف تقول لي هذا وأنا ابن قاضي القضاة عبد الله الدامغاني ؟ قال: فما أراك تطلب العلم، فقلت: اذكر لي الدرس الساعة، فذكر لي، فأقبلت على الاشتغال بالعلم، واجتهدت ففتح الله تعالى علي
وحكى لي بعض أصحاب أبي الحلواني – رحمه الله-: (مات أبي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، وكنت موصوفا بالبطالة، فأتيت أتقاضى بعض سكان دار قد ورثتها، فسمعتهم يقولون: جاء المدبر ، أي الربيط فقلت لنفسي: يقال عني ، ولازمته فما خرجت إلا إلى القضاء فصرت قاضيا مدة قلت: ورأيته أنا وهو يفتي ويناظر”
ثم بين لابنه ما يجب عليه عمله من أول قيامه من النوم حتى نومه فقال:
“فالزم نفسك يا بني الانتباه عند طلوع الفجر ولا تتحدث بحديث الدنيا، فقد كان السلف الصالح- رحمهم الله- لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيء من أمور الدنيا وقل عند انتباهك من النوم (الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور)، (الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم) ثم قم إلى الطهارة واركع سنة الفجر وأخرج إلى المسجد خاشعا وقل في طريقك (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تجيرني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)واقصد الصلاة إلى يمين الإمام فإذا فرغت من الصلاة فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير وهو على شيء قدير) عشر مرات ثم سبح عشرا، واحمد عشرا، وكبر عشرا ، وأقرأ آية الكرسي، وأسأل الله سبحانه قبول الصلاة فإن صح فاجلس ذاكرا لله تعالى إلى أن تطلع الشمس وترتفع، ثم صل واركع ما كتب لك، وإن كان ثمان ركعات فهو حسن فإذا أعدت درسك إلى وقت الضحى الأعلى، فصل الضحى ثماني ركعات، ثم تشاغل بمطالعة أو نسخ إلى وقت العصر، ثم عد إلى درسك من بعد العصر إلى وقت المغرب وصل بعد المغرب ركعتين بجزأين، فإذا صليت العشاء فعد على دروسك ثم اضطجع على شقك الأيمن فسبح ثلاثا وثلاثين، وأحمد ثلاثا وثلاثين وكبر أربعا وثلاثين، وقل: (اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك)
وإذا فتحت عينيك من النوم فاعلم أن النفس قد أخذت حظها فقم إلى الوضوء وصل في ظلام الليل ما أمكن، واستفتح بركعتين خفيفتين، ثم بعدهما ركعتين بجزأين من القرآن، ثم تعود إلى درس العلم، فإن العلم أفضل من كل نافلة”
وما قاله هنا من أعمال هى أعمال عدا الصلاة تبعث عن الملل والزهق فالإنسان لا يطيق أن يستمر فى الدرس والنسخ عدة ساعات متوالية وإنما عليه أن ينوع أفعاله ما بين رياضة بدن وطعام وشراب ودخول دورة المياه وكلام بعض الناس أو سماعهم
وطالب ولده بالعزلة مبينا ان أصل كل خير فقال :
وعليك بالعزلة فهي أصل كل خير، وأحذر من جليس السوء، وليكن جلساؤك الكتب والنظر في سير السلف، ولا تشتغل بعلم حتى تحكم ما قبله، وتلقح سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام”
والخطأ هو كون العزلة أصل كل خير وهى مصدر للخير كما هى مصدر للخير فلو كانت مصدر الخير ما قال تعالى ” وتعاونوا على البر والتقوى” فالتعاون لا يأتى من العزلة وإنما من مشاركة الناس
وبين لابنه أن العلم يرفع مكانة الإنسان وضرب لها الأمثلة فقال :
“واعلم أن العلم يرفع الأرذال فقد كان خلق كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر ولا صورة تستحسن وكان عطاء بن أبي رباح أسود اللون مستوحش الخلقة وجاء إليه سليمان بن عبد الملك- وهو خليفة ومعه ولده- فجلسوا يسألونه عن المناسك، فحدثهم وهو معرض عنهم بوجهه، فقال الخليفة لولديه: (قوما ولا تنيا ولا تكاسلا في طلب العلم، فما أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود)
ووضح لهم أن الاستغناء عن الناس حماية لعرضه حتى ولو كان طعامه قليل فقال “
“واجتهد يا بني في صيانة عرضك من التعرض لطلب الدنيا والذل لأهلها، واقنع تعز، فقد قيل: من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد ومر أعرابي على البصرة فقال: من سيد هذه البلدة؟ قيل له: الحسن البصري، قال: وبم سادهم؟ قالوا: لأنه استغنى عن دنياهم وافتقروا إلى علمه”
وحكى له أن القوم أخذوا معظم ما ورثه فأنفق ما أعطوه له على طلب العلم فقال:
“واعلم يا بني أن أبي كان موسرا وخلف ألوفا من المال، فلما بلغت دفعوا لي عشرين دينارا ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير واشتريت بها كتبا من كتب العلم وبعت الدارين، وأنفقت ثمنها في طلب العلم، ولم يبق لي شيئا من المال وما ذل أبوك في طلب العلم قط ، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئا قط وأموره تجري على السداد “ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب “
وبين لولده نتيجة التقوى وهو حفظ الله له والنجاة فقال:
“يا بني! ومتى صحت التقوى رأيت كل خير، والمتقي لا يرائي الخلق ولا يتعرض لما يؤذي دينه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: “احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك ” واعلم يا بني أن يونس عليه السلام لما كانت ذخيرته خيرا نجا بها من الشدة قال الله عز وجل: } فلولا أنه كان من المسبحين {143} للبث في بطنه إلى يوم يبعثون {144 وأما فرعون لما تكن ذخيرة خيرا لم يجد في شدته مخلصا فقيل له: ( آلآن وقد عصيت قبل ) فاجعل لك ذخائر خير من تقوى تجد تأثيرها وقد جاء الحديث: “ما من شاب اتقى الله في شبابه إلا رفعه الله في كبره “
قال الله تعالى”ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ” وقال: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين “
وبين له أن أفضل الأعمال غض الطرف عن محرم ، وإمساك للسان عن فضول كلمة، ومراعاة لحد ، وإيثار الله سبحانه وتعالى على هوى النفس وبر الوالدين وحكى له رواية اصحاب الغار فقال:
“واعلم أن أوفى الذخائر غض الطرف عن محرم ، وإمساك للسان عن فضول كلمة، ومراعاة لحد ، وإيثار الله سبحانه وتعالى على هوى النفس، وقد عرفت حديث الثلاثة الذين دخلوا إلى الغار، فانطبقت عليهم صخرة فقال أحدهم: “اللهم إنه كان لي أبوان وأولاد، فكنت أقف بالحليب على أبوي أسقيهما قبل أولادي، فإن كنت فعلت ذلك لأجلك فافرج عنا، فانفرج ثلث الصخرة، وقال الآخر: اللهم إني استأجرت أجيرا فتسخط أجره، فاتجرت به، فجاء يوما فقال: ألا تخاف الله وتعطيني أجرتي؟ فقلت انطلق إلى تلك البقرة ورعاتها فخذها، فإن كنت فعلت ذلك لأجلك فافرج عنا فانفرج ثلثا الصخرة، فقال الآخر: اللهم إني علقت بنت عم لي فلما دنوت منها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت فعلت ذلك لأجلك فافرج عنا فرفعت الصخرة وخرجوا”
ورؤى سفيان الثوري في المنام، فقيل له: “ما فعل الله بك؟ قال: ما كان إلا وضعت في اللحد، فإذا أنا بين يدي رب العالمين، فدخلت فإذا أنا بقائل يقول: سفيان؟ قلت: سفيان، قال : تذكر يوما آثرت الله على هواك؟ قلت: نعم، فأخذني صواني النثار من الجنة”
وطلب الوالد من ولده أن يطلب الكمال فقال:
“وينبغي أن تسمو همتك إلى الكمال، فإن خلقا وقفوا مع الزهد، وخلقا تشاغلوا بالعلم، وندر أقوام جمعوا بين العلم الكامل والعمل الكامل
واعلم أني قد تصفحت التابعين ومن بعدهم فما رأيت أحظى بالكمال من أربعة أنفس: سعيد بن المسيب والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم – وقد كانوا رجالا وإنما كانت لهم همم ضعفت عندنا
وقد كان السلف خلق كثير لهم همم عالية، فإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم فانظر في كتاب (صفة الصفوة) إن شئت تأمل أخبار سعيد والحسن وسفيان وأحمد- رضي الله عنهم- فقد جمعت لكل واحد منهما كتابا”
والغريب فى الأمر أن يختار ابن الجوزى القدوة لابنه التابعين وليس النبى(ص) واخوانه الأنبياء (ص) أو الصحابة مع قوله تعالى “لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”
ووضح لابنه أنه ألف كتبا كثيرة وعدد له بغض أسماءها وطلب منه أن يحفظ الكتب فالحفظ رأس ماله فقال :
“وقد علمت يا بني أني قد صنفت مائة كتاب فمنها التفسير الكبير، عشرون مجلدا، والتاريخ عشرون مجلدا، و تهذب المسند، عشرون مجلدا وباقي الكتب بين كبار وصغار يكون خمس مجلدات ومجلدين وثلاثة وأربعة وأقل وأكثر، كفيتك بهذه التصانيف عن استعارة الكتب وجمع الهمم في التأليف
فعليك بالحفظ، وإنما الحفظ رأس المال والتصرف ربح، وأصدق في الحالين في الالتجاء إلى الحق سبحانه فراع حدوده قال الله تعالى: } فاذكروني أذكركم ) ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) ( إن تنصروا الله ينصركم ) “
وابن الجوزى ما زاد على أنه نصح ابنه نصيحة سيئة وهو أن يكون مثل الحمار يحمل أسفارا بالحفظ ولكنه استدرك ذلك فطلب منه العمل بالعلم وبالقطع ليست مصنفات أبيه أو غيره من البشر هى العلم فالعلم هو كتاب الله فقال “
“وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به فإن الداخلين على الأمراء والمقبلين على أهل الدنيا قد أعرضوا عن العمل بالعلم فمنعوا البركة والنفع به”
ثم نصحه فقال:
“وإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علم، فإن خلقا كثيرا من المتزهدين والمتصوفة ضلوا طريق الهدى إذ عملوا بغير علم واستر نفسك بثوبين جميلين لا يشهرانك بين أهل الدنيا برفعتهما ولا بين المزهدين بضاعتهما، وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة فإنك مسؤول! عن ذلك، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السامعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الماء عن الحجر فلا تعظن إلا بنية ولا تمشين إلا بنية ولا تأكلن لقمة إلا بنية، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر”
والخطأ هنا هو وجود عبادة من غير علم وإنما العبادة تكون بالعلم فإن لم يكن هناك علم فلا عبادة وإنما كفر
ثم نصح الوالد ابنه بقراءة بعض الكتب فقال :
“وعليك بكتاب (منهاج المريدين) فإنه يعلمك السلوك، واجعله جليسك ومعلمك وتلمح كتاب (صيد الخاطر) فإنك تقع بواقعات تصلح لك أمر دينك ودنياك، وتحفظ كتاب (جنة النظر) فإنه يكفي في تلقيح فهمك للفقه
ومتى تشاغلت بكتاب (الحدائق) أطلعك على جمهور الحديث، وإذا التفت إلى كتاب (الكشف) أبان لك المستور ما في الصحيحين من الحديث ولا تتشاغلن بكتب التفاسير التي صنفتها الأعاجم، وما ترك (المغني) و (زاد المسير) لك حاجة في شيء من التفسير وأما ما جمعته لك من كتب الوعظ فلا حاجة لك بعدها إلى زيادة أصلا”
وعاد إلى نصحه بنصيحة خاطئة وهى اعتزال الناس فقال :
“وكن حسن المدارة للخلق مع شدة الاعتزال عنهم، فإن العزلة راحة من خلطاء السوء ومبقية للوقار فإن الواعظ- خاصة- ينبغي له أن لا يرى مبتذلا ولا ماشيا في السوق ولا ضاحكا لمحسن به الظن فينتفع بوعظه، فإذا اضطررت إلى مخالطة الناس فخالطهم بالحلم عنهم، فإنك إن كشفت عن أخلاقهم لم تقدر على مداراتهم “
ثم طالبه بآداء الحقوق لأهلها وهو أمر لا يتفق مع طلب العزلة فقال :
“وأد إلى كل ذي حق حقه من زوجة وولد وقرابة، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلى أشرف ما يمكن ولا تهمل نفسك وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه كما قيل:
يا من بدنياه أنشغل
يا من غره طول الأمل
الموت يأتيه بغتة
والقبر صندوق العمل
وراع عواقب الأمور، ليهن عليك الصبر عن كل ما تشتهي وما تكره، وإن وجدت من نفسك غفلة فاحملها إلى المقابر، وذكرها قرب الرحيل، ودبر أمرك والله المدبر في إنفاقك، من غير تبذير لئلا تحتاج إلى الناس، فإن حفظ المال من الدين ولأن تخلف لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس”
والغريب فى الكتاب ان رحلا عالما فقيها ينصح اينه بقراءة تضانيق البشر ولا ينصحه بقراءة كتاب الله والعمل به