بقلم/د/أميمة أحمد رمضان
إنها حالة من الصخب والضجيج على غير العادة ، حالة من الفتور والملل تكسوا ملامح البعض ، حالة من اللا إنسانية ..إنها حالة من تحجر القلوب وتبلد المشاعر .. .الكل يهرول الكل يتسابق ويتصارع من أجل قضاء حاجاته ، الكل فى عجالة لمواكبة تغيرات العصر، حالة من التخبط يعقبها حالة من الانتظار والترقب.. انتظار كل ما هو جديد فى عالم الماديات والمصالح فالكل يتنافس حتى يصبح الأفضل والأقوى ، فأنا أتسابق هنا وآخر يتسابق هناك ، وما بين هذا أو ذاك تموت إنسانيتنا ، فهناك من لا يجد من قوت يومه ما يكفيه حتى تشرق شمس يوم جديد ، من لا يجد دواء لدائه ، من لا يجد كلمه تواسيه فى محنته ، من لا يجد نظرة عطف وشفقة من هذا أو ذاك ، أناس تصرخ ولا أحد يسمع صراخها ، أناس تبكى ولا احد يرى دموعها ، ووسط هذا الصخب والضجر ووسط الزحام وبينما أسير فى الطريق ، تتعالى اصوات الصخب أصوات الضجيج ، فكلما تقدمت خطوة تتعالى معها الأصوات شيئاً فشيئاً ، وكأن خطواتى تدفعها تلك الأصوات المتراكمة ، فلا أعلم أهى أصوات الناس فى الشوارع ، أم أصوات زحام السيارات أم هى أصوات الباعة الجائلين ، أم أصوات مكبرات الصوت بالمدارس أم ماذا ؟ ولكن ما أعلمه أن هذه الأصوات تعلو وتعلو فتطغى على أصوات هؤلاء القلة هؤلاء الفقراء ، هؤلاء الضعفاء ، تطغى على أصوات صراخهم وبكائهم ، تلك الفئة التى لاتثور إذا جاعت ، تلك الفئة التى تبكى بدون دموع إذا تألمت ، إنه بكاء القلب بكاء الروح والنفس وهو أكثر وجعاً من بكاء العين، تلك الفئة التى إذا تعالت صراخها بكت ، إذا تحدثت لم تسمع لها صوتاً ، لايريدون إلا أن يظلون فقط على قيد الحياة بلا أوجاع ، فهناك طفل يبكى من الجوع ، وهناك سيدة تتسول لكى تسد حاجة صغارها ، وأخرى تأخذ من أرصفة الشوارع سكن لها فتبيع بيد ويد أخرى تحتضن صغيرها ، وهناك طفل يأخذ من الشارع مأوى له ، يقف فى الطرقات لكى يجرى خلف هذا أو ذاك ليتودد إليهم ويلتمس منهم عطفا ويخاطب قلوبهم التى لا رحمة فيها !! ، وهناك فتاة ترتعش من برودة الجو ،ثيابها مهلهلة ، يتخلل الهواء من ثيابها الممزقة ليأكل جسدها الضعيف ، خطواتها بطيئة ، تتقدم مرة ومرة أخرى تتراجع تخشى طلب المال خوفاً ممن لا يرحم طفولتها وينتهك براءتها ، فتبيع الورد بعزة النفس عالية الرأس ، فهى تحمل كل انواع البهجة من الورود والبالونات والحلوى فى كفيها الطفولى الرقيق المرتعش واليد الاخرى تمسح بها دموع الذل والتوسل ، تلك الدموع التى لا تجف من بين ثنايا وجهها الطفولى البرىء ، وهناك عجوز يتوكأ على عصاة ، يسير فى الطريق ليجد مكاناً يدارى فيه حزنه ، ينظر بين الحين والآخر فى وجوه السائرين لعله يجد فيهم من يحنوا عليه ، لعله يجد فى أحدهم ما لم يجده فى أبناءه الذين تركوه فى وحدته حائرا لا يعرف أين يذهب ، يبحث عن مأوى يحتضن أحزانه ويقضى فيه ما تبقى من عمره ويخبىء فيه جسده الذى أنهكته الحياة ، لعل وجه الشاحب وخوفه من الوحدة يأكلان من جسده الهزيل كما تأكل النارالحطب ، ووسط هذا الضجيج وهذه الضوضاء وأنا أبحث عن شىء ، شىء ما لم أجده بين هؤلاء ، أبحث عن الرحمه أبحث عن نظرة حنان ، نظرة عطف واهتمام لعلها تكون آخر ما ينظر إليه ذلك الرجل العجوز ويتمناه فى دنياه ، لعلها تحتضن ألمه ، لعلها ترسم إيتسامه على وجه هذا العجوز المتهالك ، ابتسامة تختلط بتجاعيد وجه العابث لتمتزج بآشعة الشمس لتشرق يومه من جديد ، نظرة تطمئنه ويد تمسح دموع عينيه لينسى شعور الوحدة والألم ، وها أنا ما زلت فى طريقى أبحث عن الرحمه التى ننظر بها إلى هذه السيدة التى تلقى بطفليها الرضيع على الأرض لكى تبيع للمارة فى الطريق ما يرحمها من الذل والتوسل ، تللك الرحمة التى ننظر بها إلى طفل قتل المجتمع براءته ، إلى طفل لا يفهم من الحياة شىء إلا أن يذهب آخر اليوم ببضع نقود قد تكون ثمن لدواء والدته العجوز أو أبيه المتقاعد أو أخوه الرضيع ، تللك النظرة التى تدفع هذا الطفل بعيداً عن طريق الموت والإدمان والضياع؛ نظرة ترحم طفولته البريئة نظرة تجعل منه رجلاً قوياً يحافظ على كرامته حتى فى احلك الظروف نظرة لا تجعل منه إنسان سلبى ينظر إلى المجتمع بعين شرسة عين شريرة نظرة من لا يرحم ضعفه ، أبحث عن الرحمة التى تنتشل هذه الفتاه الصغيرة من طريق الضياع إلى بر الأمان، ويد تمسك بيدها المرتعشة لتطمئنها من الخوف والقلق ، نظرة تحنوا عليها تعلمها أن الكرامة والعزة فوق كل مال ، نظرة تنتشلها من القلوب القاسية لترحم ضعفها وتعيش مرفوعة الرأس عفيفة النفس واللسان ..إننا بحاجة إلى مشاركة كل هؤلاء ..إلى احتضانهم ، يحتاجون إلى رحمة لا تجزع يوماً ولا تموت ابدا ، إلى يد حانية تربت على أكتافهم لكى تشعرهم بالإحتواء والامان وبأنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع ، فإذا لم نشعر بهؤلاء فسلاما على إنسانيتنا ، فقد مات أجمل ما فى الإنسان ، وكأنك تعيش فى الحياة جسد بلا روح بلا قلب أشبه بالميت ولكنه ما زال على قيد الحياة ، فلا تنتظر لكى ترى دموع الطفل أو العجوز او الفتاة أو أى شخص ضعيف ، فبكاء الروح ودموع القلب داء لا دواء له …